ويختصر السياق هنا حلقات كثيرة من القصة ، ليصل إلى قرب النهاية . حين وصلت التجربة إلى نهايتها ؛ وأحس موسى أن القوم لن يؤمنوا له ولن يستجيبوا لدعوته ؛ ولن يسالموه أو يعتزلوه . وبدا له إجرامهم أصيلاً عميقاً لا أمل في تخليهم عنه . عند ذلك لجأ إلى ربه وملاذه الأخير :
( فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون ) . .
وماذا يملك الرسول إلا أن يعود إلى ربه بالحصيلة التي جنتها يداه ? وإلا أن ينفض أمره بين يديه ، ويدع له التصرف بما يريد ?
وتلقى موسى الإجابة إقراراً من ربه لما دمغ به القوم . . حقاً إنهم مجرمون . .
فلما طال مقامه بين أظهرهم ، وأقام حجج الله عليهم ، كل ذلك وما زادهم ذلك إلا كفرًا وعنادًا ، دعا ربه عليهم دعوة نفذت فيهم ، كما قال تعالى : { وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا } [ يونس : 88 ، 89 ] . وهكذا قال هاهنا : { فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ }
وقوله : { فدعا ربه } قبله محذوف من الكلام ، تقديره : فما كفوا عنه ، بل تطرقوا إليه وعتوا عليه وعلى دعوته { فدعا ربه } .
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وعيسى «إن هؤلاء » بكسر الألف من «إن » على معنى «قال إن » ، وقرأ جمهور الناس والحسن أيضاً : «أن هؤلاء » بفتح الألف ، والقراءتان حسنتان .
وحكم عليهم بالإجرام المضمن للكفر حين يئس منهم ، وهنا أيضاً محذوف من الكلام تقديره : فقال الله له : { فاسر بعبادي } وهذا هو الأمر الذي أنفذه الله إلى موسى بالخروج من ديار مصر ببني إسرائيل ، وقد تقدم شرحه وقصصه في سورة الأنبياء وغيرها .
التعقيب المفاد بالفاء تعقيب على محذوف يقتضي هذا الدعاءَ إذ ليس في المذكور قبل الفاء ما يناسبه التعقيبُ بهذا الدعاء إذ المذكور قبله كلام من موسى إليهم ، فالتقدير : فَلَمْ يستجيبوا له فيما أمرهم ، أو فأصرّوا على أذاه وعدم متاركته فدعا ربه ، وهذا التقرير الثاني أليق بقوله : { أن هؤلاء قوم مجرمون } . وهذا كالتعقيب الذي في قوله تعالى : { فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق } [ الشعراء : 63 ] ، وقوله : { أن هؤلاء قوم مجرمون } اتفق القراء العشرة على قراءته بفتح الهمزة وشد النون فما بعدها في قوة المصدر ، فلذلك تقدر الباء التي يتعدّى بها فعل ( دَعا ) ، أي دعا ربه بما يجمعه هذا التركيبُ المستعمل في التعريض بأنهم استوجبوا تسليط العقاب الذي يَدعو به الداعي ، فالإخبار عن كونهم قوماً مجرمين مستعمل في طلب المجازاة على الإجرام أو في الشكاية من اعتدائهم ، أو في التخوف من شرهم إذا استمرّوا على عدم تسريح بني إسرائيل ، وكل ذلك يقتضي الدعاء لكف شرّهم ، فلذلك أطلق على هذا الخبر فعل { دعا } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فدعا ربه أن هؤلاء} يعني أهل مصر.
{قوم مجرمون} فلا يؤمنون، فاستجاب الله له...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فدعا موسى ربه إذ كذّبوه ولم يؤمنوا به، ولم يؤدّ إليه عباد الله، وهموا بقتله.
"قَوْمٌ مُجْرِمُونَ": أنهم مشركون بالله كافرون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
كقوله حين قال: {وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون} [الزخرف: 88] وقول نوح عليه السلام {رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا} {فلم يزدهم دعائي إلا فرارا} [نوح: 5 و6] ونحو ذلك؛ يقولون: يا ربنا إنا قد عاملناهم المعاملة التي أمرتنا أن نعاملهم، واحتلنا الحيل التي علّمتنا أن نحتال معهم، فلم ينجع ذلك فيهم، ولم يتبعونا، ولا أجابونا إلى ذلك، فهل من حيلة سوى ذلك أو معاملة غير ذلك نُعاملهم بها، لعلّهم يتبعوننا، ويجيبوننا؟ هذا الدعاء وهذا القول منهم يكون بعد ما أجهدوا أنفسهم في دعائهم إلى الحق زمانا طويلا، ليس يحتمل في ابتداء الأمر.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
حكى الله تعالى أن موسى حين يئس من قومه أن يؤمنوا به (دعا) الله (ربه) فقال: (إن هؤلاء قوم مجرمون).
وقيل إنه دعا بما يقتضيه سوء أفعالهم وقبح إجرامهم وسوء معاملتهم له، فكأنه قال: اللهم عجل لهم بما يستحقونه بإجرامهم ومعاصيهم بما به يكونون نكالا لمن بعدهم، وما دعا بهذا الدعاء إلا بعد إذن الله له في الدعاء عليهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
قيل هو قوله: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ الظالمين} [يونس: 85] وإنما ذكر الله تعالى السبب الذي استوجبوا به الهلاك، وهو كونهم مجرمين.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{فدعا ربه} قبله محذوف من الكلام، تقديره: فما كفوا عنه، بل تطرقوا إليه وعتوا عليه وعلى دعوته {فدعا ربه}.
وحكم عليهم بالإجرام المضمن للكفر حين يئس منهم.
إن قالوا: الكفر أعظم حالا من الجرم، فما السبب في أن جعل صفة الكفار كونهم مجرمين حال ما أراد المبالغة في ذمهم؟ قلت لأن الكافر قد يكون عدلا في دينه وقد يكون مجرما في دينه وقد يكون فاسقا في دينه فيكون أخس الناس.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان التقدير: لم يؤمنوا به ولا لأجله ولم يعتزلوه، بل بغوا له الغوائل وراموا أن يواقعوا به الدواهي والقواصم، فلم يقدروا على ذلك وآذوا قومه وطال البلاء، سبب عنه قوله: {فدعا ربه} الذي أحسن إليه وضمن له سياسته وسياسة قومه، ثم فسر ما دعا به بقوله: {أن هؤلاء} أي الحقيرون الأراذل الذليلون {قوم} أي لهم قوة على القيام بما يحاولونه {مجرمون} أي عريقون في قطع ما أمرت به أن يوصل، وذلك متضمن وصل ما أمرت به أن يقطع، فكان المعنى فدعا بهذا المعنى، ولذلك أتى "بأن "الدالة على المصدرية.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
سماه دعاء مع أنه لم يذكر إلا مجرّد كونهم مجرمين؛ لأنهم قد استحقوا بذلك الدعاء عليهم...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: قد أجرموا جرما يوجب تعجيل العقوبة.
فأخبر عليه السلام بحالهم وهذا دعاء بالحال التي هي أبلغ من المقال، كما قال عن نفسه عليه السلام {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يختصر السياق هنا حلقات كثيرة من القصة، ليصل إلى قرب النهاية. حين وصلت التجربة إلى نهايتها؛ وأحس موسى أن القوم لن يؤمنوا له ولن يستجيبوا لدعوته؛ ولن يسالموه أو يعتزلوه. وبدا له إجرامهم أصيلاً عميقاً لا أمل في تخليهم عنه. عند ذلك لجأ إلى ربه وملاذه الأخير: (فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون).. وماذا يملك الرسول إلا أن يعود إلى ربه بالحصيلة التي جنتها يداه؟ وإلا أن ينفض أمره بين يديه ويدع له التصرف بما يريد؟ وتلقى موسى الإجابة إقراراً من ربه لما دمغ به القوم.. حقاً إنهم مجرمون...
وقوله {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَـٰؤُلاَءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ} فيه إشارة إلى يأسه من صلاحهم حتى شكاهم إلى الله، وطلب الخلاصَ منهم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
انظر إلى أدب الدعاء، إنّه لا يقول: اللّهم افعل كذا وكذا، بل يكتفي بأنّ يقول: اللّهمَّ إن هؤلاء قوم مجرمون لا أمل في هدايتهم وحسب!