في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَٱلۡحَٰمِلَٰتِ وِقۡرٗا} (2)

( الذاريات ذروا ، فالحاملات وقرا ، فالجاريات يسرا ، فالمقسمات أمرا . . إن ما توعدون لصادق ، وإن الدين لواقع . . )

هذه الإيقاعات القصيرة السريعة ، بتلك العبارات الغامضة الدلالة ، تلقي في الحس - كما تقدم - إيحاء خاصا ، وتلقي ظلا معينا ، يعلق القلب بأمر ذي بال ، وشأن يستحق الانتباه . وقد احتاج غير واحد في العهد الأول أن يستفسر عن مدلول الذاريات ، والحاملات ، والجاريات ، والمقسمات . .

قال ابن كثير في التفسير : قال شعبة بن الحجاج ، عن سماك بن خالد بن عرعرة ، أنه سمع عليا - رضي الله عنه - وشعبة أيضا عن القاسم بن أبي بزة ، عن أبي الطفيل ، أنه سمع عليا - رضي الله عنه - وثبت أيضا من غير وجه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه صعد منبر الكوفة فقال : لا تسألوني عن آية في كتاب الله تعالى ولا عن سنة عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلا أنبأتكم بذلك . فقام ابن الكواء ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ما معنى قوله تعالى : ( والذاريات ذروا )? قال علي - رضي الله عنه : الريح . قال : ( فالحاملات وقرا )? قال - رضي الله عنه - : السحاب . قال : ( فالجاريات يسرا )? قال - رضي الله عنه - : السفن . قال : ( فالمقسمات أمرا )? قال - رضي الله عنه - : الملائكة .

وجاء صبيغ بن عسل التميمي إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فسأله عنها فأجابه بمثل ما روي عن علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - وقد أحس عمر - رضي الله عنه - أنه يسأل عنها تعنتا وعنادا فعاقبه ومنعه من مجالسة الناس حتى تاب وحلف بالأيمان المغلظة : ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئا . . وهذه الرواية تشي كذلك بأن غموض مدلولات هذه التعبيرات هو الذي جعل المتعنتين يستترون وراءها ويسألون عنها !

وهكذا فسرها ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهم - ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والسدي وغير واحد ؛ ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم غير ذلك [ كما قال ابن كثير .

أقسم الله - سبحانه - بالرياح التي تذرو ما تذروه من غبار وحبوب لقاح وسحب وغيرها مما يعلم الإنسان وما يجهل . وبالسحاب الحاملات وقرا من الماء يسوقها الله به إلى حيث يشاء . وبالسفن الجاريات في يسر على سطح الماء بقدرته وبما أودع الماء وأودع السفن وأودع الكون كله من خصائص تسمح بهذا الجريان اليسير . ثم بالملائكة المقسمات أمرا ، تحمل أوامر الله وتوزعها وفق مشيئته ، فتفصل في الشؤون المختصة بها ، وتقسم الأمور في الكون بحسبها .

والريح والسحاب والسفن والملائكة خلق من خلق الله ، يتخذها أداة لقدرته ، وستارا لمشيئته ، ويتحقق عن طريقها قدر الله في كونه وفي عباده . وهو يقسم بها - سبحانه - للتعظيم من شأنها ، وتوجيه القلوب إليها ، لتدبر ما وراءها من دلالة ؛ ولرؤية يد الله وهي تنشئها وتصرفها وتحقق بها قدر الله المرسوم . وذكرها على هذه الصورة بصفة خاصة يوجه القلب إلى أسرارها المكنونة ؛ ويعلقه بمبدع هذه الخلائق من وراء ذكرها هذا الذكر الموحي .

ثم لعل لها كذلك صلة من ناحية أخرى بموضوع الرزق ، الذي يعني سياق هذه السورة بتحرير القلب من أوهاقه ، وإعفائه من أثقاله . فالرياح والسحب والسفن ظاهرة الصلة بالرزق ووسائله وأسبابه . أما الملائكة وتقسيمها للأمر ، فإن الرزق أحد هذه القسم . ومن ثم تتضح الصلة بين هذا الافتتاح وموضوع بارز تعالجه السورة في مواضع شتى .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَٱلۡحَٰمِلَٰتِ وِقۡرٗا} (2)

قال شعبة{[27391]} بن الحجاج ، عن سِمَاك ، عن خالد بن عَرْعَرَة أنه سمع عليا وشعبة أيضًا ، عن القاسم بن أبي بزَّة ، عن أبي الطُّفَيْل ، سمع عليًا . وثبت أيضًا من غير وجه ، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : أنه صعد منبر الكوفة فقال : لا تسألوني عن آية في كتاب الله ، ولا عن سنة عن رسول الله ، إلا أنبأتكم بذلك . فقام إليه ابن الكواء فقال : يا أمير المؤمنين ، ما معنى قوله تعالى : { وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا } ؟ قال : الريح [ قال ] {[27392]} : { فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا } ؟ قال : السحاب . [ قال ]{[27393]} : { فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا } ؟ قال : السفن . [ قال ] {[27394]} : { فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا } ؟ قال : الملائكة {[27395]} .

وقد روي في ذلك حديث مرفوع ، فقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إبراهيم بن هانئ ، حدثنا سعيد بن سلام العطار ، حدثنا أبو بكر بن أبي سَبْرَة ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب قال : جاء صَبِيغ التميمي إلى عمر بن الخطاب فقال : يا أمير المؤمنين ، أخبرني عن { الذَّارِيَاتِ ذَرْوًا } ؟ فقال : هي الرياح ، ولولا أنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته . قال : فأخبرني عن { الْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا } قال : هي الملائكة ، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته . قال : فأخبرني عن { الْجَارِيَاتِ يُسْرًا } قال : هي السفن ، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته . ثم أمر به فضرب مائة ، وجعل في بيت ، فلما برأ {[27396]} [ دعا به و ] {[27397]} ضربه مائة أخرى ، وحمله على قَتَب ، وكتب إلى أبي موسى الأشعري : امنع الناس من مجالسته . فلم يزل كذلك حتى أتى أبا موسى فحلف بالأيمان الغليظة ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئا . فكتب في ذلك إلى عمر ، فكتب عمر : ما إخاله إلا صدق ، فخل بينه وبين مجالسة الناس .

قال أبو بكر البزار : فأبو بكر بن أبي سبرة لين ، وسعيد بن سلام ليس من أصحاب الحديث {[27398]} .

قلت : فهذا الحديث ضعيف رفعه ، وأقرب ما فيه أنه موقوف على عمر ، فإن قصة صَبِيغ بن عسل مشهورة مع عمر {[27399]} ، وإنما ضربه لأنه ظهر له من أمره فيما يسأل تعنتا وعنادا ، والله أعلم .

وقد ذكر الحافظ ابن عساكر هذه القصة في ترجمة صبيغ مطولة {[27400]} . وهكذا فسرها ابن عباس ، وابن عمر ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، وغير واحد . ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم غير ذلك .

وقد قيل : إن المراد بالذاريات : الريح كما تقدم وبالحاملات وقرًا : السحاب كما تقدم ؛ لأنها تحمل الماء ، كما قال زيد بن عمرو بن نفيل :

وَأسْلَمْتُ نَفْسي لمَنْ أسْلَمَتْ *** لَهُ المزْنُ تَحْمِلُ عَذْبا زُلالا {[27401]}

فأما الجاريات يسرًا ، فالمشهور عن الجمهور - كما تقدم - : أنها السفن ، تجري ميسرة في الماء جريا سهلا . وقال بعضهم : هي النجوم تجري يسرا{[27402]} في أفلاكها ، ليكون ذلك ترقيا من الأدنى إلى الأعلى ، إلى ما هو أعلى منه ، فالرياح فوقها السحاب ، والنجوم فوق ذلك ، والمقسمات أمرا الملائكة فوق ذلك ، تنزل بأوامر الله الشرعية والكونية . وهذا قسم من الله عز جل على وقوع المعاد ؛ ولهذا قال : { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ }


[27391]:- (1) في أ: "سعيد".
[27392]:- (2) زيادة من م.
[27393]:- (3) زيادة من م.
[27394]:- (4) زيادة من م.
[27395]:- (5) رواه الطبري في تفسيره (26/115) عن محمد بن المثنى عن محمد بن جعفر عن شعبة به.
[27396]:- (6) في م: "برد".
[27397]:- (7) زيادة من م، أ.
[27398]:- (1) مسند البزار برقم (2259) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (7/112): "فيه أبو بكر بن أبي سبرة، وهو متروك".
[27399]:- (2) في م: "مع التميمي عمر".
[27400]:- (3) تاريخ دمشق (8/230) "القسم المخطوط".
[27401]:- (4) البيت في سيرة ابن هشام (1/231).
[27402]:- (5) في أ: "سيرا".

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَٱلۡحَٰمِلَٰتِ وِقۡرٗا} (2)

وقوله : فالْحامِلاتِ وِقْرا يقول : فالسحاب التي تحمل وقرها من الماء .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَٱلۡحَٰمِلَٰتِ وِقۡرٗا} (2)

و{ الحاملات وقراً } هي الرياح حين تجمع السحاب وقد ثَقُل بالماء ، شبه جمعها إياه بالحَمل لأن شأن الشيء الثقيل أن يحمله الحامل ، وهذا في معنى قوله تعالى : { ويَجْعَلُه كِسَفاً فترى الودقَ يخرج من خلاله } [ الروم : 48 ] الآية . وقوله : { وينشىء السحاب الثِّقال } [ الرعد : 12 ] وقوله : { ألم تر أن الله يُزْجي سحاباً ثم يُؤَلّف بينه ثم يجعله رُكاماً فترى الودق يخرج من خلاله } [ النور : 43 ] .

والوِقر بكسر الواو : الشيء الثقيل .

ويجوز أن تكون الحاملات الأسحبة التي ملئت ببخار الماء الذي يصير مطراً ، عطفت بالفاء على الذاريات بمعنى الرياح لأنها ناشئة عنها فكأنها هي .