تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{فَٱلۡحَٰمِلَٰتِ وِقۡرٗا} (2)

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيات 1- 4 قوله تعالى : { والذّاريات ذروًا } سُئل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عن هذه الآية ، فقال : { والذّاريات } هي الرياح { فالحاملات وِقرًا } هو{[19847]} السّحاب { فالجاريات يُسرًا } هن السفن { فالمقسِّمات أمرًا } هي الملائكة .

وعلى هذا خُرّج تأويل عامة أهل التأويل إلا ابن مسعود رضي الله عنه فإنه قال : { والذّاريات ذروًا } هي الملائكة .

ثم يحتمل أن تُصرف هذه الأحرف كلها من الذاريات وغيرها إلى الرياح خاصة ؛ فالذاريات هن يذرُون الأشياء { ذروا } { فالحاملات وِقرًا } هن يحملن السحاب وغيرها في الآفاق .

وجائز أن يُصرف كل حرف من ذلك إلى نوع وجنس على ما حمله أهل التأويل ، وصرفه إليه .

قال القُتبيّ : ذرت الريح ، تذرو ذروًا ، ومنه قوله تعالى : { فأصبح هشيما تذروه الرياح } [ الكهف : 45 ] ومنه ذرّيت البُرّ ، لأن التّذرية لا تكون إلا بالريح ، و : تذرّيت أي أشرفت من الذُّروة ، و : ذرأ الرجل ، يَذْرَأُ ذَرْءًا ، فهو أذْرَأُ ، أي أشْمَطُ ، وشاة ذَرْآء إذا كان في ذَنَبِها بياض { فالجاريات يُسرًا } أي سهلا ، أي تجري السّفن في المياه جريا سهلا .

وقال أبو عوسجة : أي هيّنا .

ثم { فالمُقسِّمات أمرًا } هم الملائكة . واختلفوا في التقسيم : قال بعضهم : أربعة أملاك يقسّمون الأمور : فجبريل عليه السلام ينزل في إنزال العذاب والشدائد ، وميكائيل ينزل في إنزال النعمة والرخاء ، وإسرافيل في نفخ السور ، وملك الموت في قبض الأرواح . فكل واحد من هؤلاء مكل في أمر على حِدَةٍ .

وقال بعضهم : هم الملائكة الذين ينزلون بالوحي : يأخذ هذا من هذا ؛ إذ لله تعالى أن يرسل الوحي على يدي من يشاء من ملائكته ، والله أعلم .

ثم اختُلف في ذكر هذه الأشياء من الرياح والسفن والسّحاب والملائكة ، لماذا ؟

قال عامة ألِ التأويل : إنما ذكرها على القسم بها . وقال بعضهم : إنما ذكرها على سبيل تعداد النّعم والمنافع التي جعلها الله تعالى لهم ، واحتجّ هؤلاء ، وقالوا : إن الله تعالى نهانا عن القَسَم بغيره ، فكيف يُقسِم{[19848]} بغيره ؟ فيكون ذكر ذلك الأشياء على الامتنان لا على القَسَم .

والقائلون بالقَسَم اختلفوا : فمنهم من يقول : القَسَم بأعيان هذه الأشياء لعِظَم منافع الأشياء عند الخالق ، ومنهم من يقول : إن القَسَم بالله تعالى لا بغير هذه الأشياء على الإضمار ؛ كأنه قال : والذي ذرأ الذاريات ذَرْوًا ، والذي خلق الحاملات وِقْرًا { فالجاريات يُسرًا } { فالمُقسّمات أمرًا } وقوله تعالى : كقوله تعالى : { فوربّ السماء والأرض } [ الذاريات : 23 ] فيكون القَسَم بخالق هذه الأشياء لا بأنفسها ، وكل واحد من الوجهين [ محتمل ]{[19849]} لأن القسم خرج لرفع شُبهة الكَفَرة في البعث وارتيابهم فيه بعد ما أقام عليهم حُجج البعث وبراهينه على أنه كائن لا محالة [ بحيث لو تأمّلوا ]{[19850]} ، ونظرو فيها لزال{[19851]} ذلك الارتياب .

والقَسَم لتأكيد ما وقع عليه بما يكون عندهم له حُرمة وقدر وعظمة ، فيدلُّهم ذلك على تأكيد الخبر المقرون بالقَسَم . فالقسم من الله تعالى بأنه خالق هذه الأشياء المذكورة مما يجلّ ، ويعظُم عند الكفرة لما كانوا يُقسِمون بالله تعالى عند عِظَم الأمور كما أخبر تعالى : { أقسموا بالله جهد أيمانهم } [ المائدة : 53 و . . . ] فيصلُح لتأكيد ما وقع عليه القَسَم .

وكذلك القَسم بهذه الأشياء يصلح مؤكدا لعِظم خطر هذه الأشياء عندهم لما تجِلُّ منافع هذه الأشياء ؛ والعُرف في الناس أنهم إنما يُقسِمون بالذي عظُم خطره ، وجلّ قدره عندهم ، فأقسم الله تعالى بهذه الأشياء لما عرف عِظم خطرها وجليل قدرها عندهم :

فمنافع الرياح ما يكثر عدُّها ؛ فقد أهلك بها أقواما ، وبها استأصلهم ، وبها تُلقَح الأشجار المُثمِرة وغيرُها ، وبها يُساق السحاب في الآفاق للأمطار ، وبها تجزي السفُن في البحار ، وغيرُها من المنافع ، وبها سبب حياة الحيوانات بالنَّفَس ودخول الريح فيهم ونحوها في تذرية الطعام بحيث لولاها لتحرّج الناس في التّذرية ، وفيها آيات .

فإن الريح جسم لطيف [ لا ]{[19852]} يُرى ، ولا يُدرك ، ليُعلَم أن الرؤية لا توجب الإحاطة والإدراك وغير ذلك من جهة الآيات على غير ما تقدم .

وكذلك أقسم بالحاملات وِقرًا ، وهو{[19853]} السحاب الذي فيه منافع الخلق من حمل الأمطار والتظليل في الحرّ ونحو ذلك مع ما فيه من الآيات ؛ إذ هو يُمسكها في الهواء حتى{[19854]} لا تقع بسوق الرياح مع ما فيه من الحِمل والوِقْر .

ثم يرسل المطر حيث أمر ؛ إذ قد يوجد السحاب ، ولا مطر . دل أنه يُرسل بنفسه بل بالأمر يرفع ، ويُمسك ، ويرسل{[19855]} ، /529-ب/ وهو في نفسه مُسخّر . ولو كان عملُه بالطبع لم يختلف باختلاف الأحوال .

وفيه آيات البعث ؛ إذ خلق مثله لا يكون إلا لعاقبة .

وكذلك أقسم بالجاريات يُسرًا ، وهي السُّفن لما فيها من منافع الخلق ؛ إذ لولاها لانقطعت بعض المنافع عن الخلق ؛ إذ ما يحتاج المرء من المنافع لا يوجد في مكان واحد ، بل خلقها متفرِّقة في أماكن ؛ فطريق تحصيل هذه المنافع والحوائج سيّان : الحمل على ظهور الدوابّ في البر ، وفي السفن في البحار مع ما فيها من الآية العظيمة بما جعلها بحيث لا تتسفّل في الماء مع ثِقَل الأحمال ، بل تجري بها الريح حيث ما شاؤوا بأمر الله تعالى . والملائكة ، منافعُهم عظيمة ظاهرة ، وعِظَم قدرهم وجلالة خَطَرِهم واضح .

وإذا كان كذلك ، فكان القسم بهذه الأشياء لتأكيد الخبر المُقسَم عليه مما يُعقل ، وهو مُتعارَف .

ولا معنى لقول أولئك : إنه نهى عباده عن القسم بغيره ، فكيف يُقسِم بنفسه ؟ إذ يجوز أن يُقسم هو بشيء ، ينهانا عن القسم به ؛ إذ القسم بالشيء تبجيل تلك الأشياء وتعظيمُها ، وإنها لا تستحق بأنفسها بل بالله تعالى ، فأمرنا بالقسم بالله تعالى ؛ إذ هو المستحقّ للتعظيم بنفسه{[19856]} في الحقيقة ، إذ هو خالق الأشياء كلها .

فأما القسم من الله تعالى بشيء فليس لتعظيم ذلك في نفسه ، بل بيان منه قدر منافعه التي للخلق فيه التي عظُمت ، وجلّت عندهم ، فيكون لذكرها خطرٌ عندهم .

ثم ذكر أفعال هذه الأشياء التي أقسم بها ، ولم يذكر أنفسَها ، والقسم إنما يكون بالأنفس لا بالأفعال ؛ فإما أن عرف أولئك الكفرة أنفس هذه الأشياء بذكر أفعالها وقت قرع ذكر هذه الأفعال سمعهُم ، وإما{[19857]} إذا لم يعرفوا يسألون عنها وما أريد بها ، والله أعلم .


[19847]:في الأصل وم: هي.
[19848]:ساقطة من م.
[19849]:ساقطة من الأصل وم.
[19850]:من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم.
[19851]:في الأصل وم: لزوال.
[19852]:ساقطة من الأصل وم.
[19853]:في الأصل وم: وهي.
[19854]:في الأصل وم: حيث.
[19855]:من م، في الأصل: ويرفع.
[19856]:في الأصل وم: بأنفسها.
[19857]:في الأصل وم: أو.