وقوله : { وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ } أي : أجرني من الخزي يوم القيامة و[ يوم ]{[21763]} يبعث الخلائق أولهم وآخرهم .
قال البخاري في قوله : { وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ } وقال إبراهيم بن طهمان ، عن ابن أبي ذئب ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن إبراهيم رأى أباه يوم القيامة عليه الغَبَرَةُ والقَتَرَةُ " {[21764]} .
حدثنا إسماعيل ، حدثنا أخي ، عن ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يلقى إبراهيم أباه ، فيقول : يا رب ، إنك وعدتني أنك لا تخزيني{[21765]} يوم يبعثون . فيقول الله : إني حرمت الجنة على الكافرين " .
هكذا رواه عند هذه الآية{[21766]} . وفي أحاديث الأنبياء بهذا الإسناد بعينه منفردا به ، ولفظه : يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة ، وعلى وجه آزر قَتَرَةٌ وغَبَرة ، فيقول له إبراهيم : ألم أقل لك : لا تعصني{[21767]} فيقول أبوه{[21768]} : فاليوم لا أعصيك . فيقول إبراهيم : يا رب ، إنك وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون ، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد ؟ فيقول الله تعالى : إني حرمت الجنة على الكافرين . ثم يُقال : يا إبراهيم ، ما تحت رجليك ؟ فينظر فإذا هو بذبح متلطخ ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار{[21769]} .
وقال أبو عبد الرحمن النسائي في التفسير من سننه الكبير قوله : { وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ } : أخبرنا أحمد بن حفص{[21770]} بن عبد الله ، حدَّثني أبي ، حدثني إبراهيم بن طَهْمَان ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبرِي ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن إبراهيم رأى أباه يوم القيامة عليه الغَبَرة والقَتَرة ، وقال{[21771]} له : قد نهيتك عن هذا فعصيتني . قال : لكني اليوم لا أعصيك واحدة . قال : يا رب ، وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون ، فإن{[21772]} أخزيت أباه فقد أخزيت الأبعد . قال : يا إبراهيم ، إني{[21773]} حرمتها على الكافرين . فأخذ منه ، قال : يا إبراهيم ، أين أبوك ؟ قال : أنت أخذته مني . قال : انظر أسفل منك . فنظر{[21774]} فإذا ذيخ يتمرغ {[21775]} في نتنه ، فأخذ بقوائمه فألقي في النار{[21776]} .
هذا إسناد{[21777]} غريب ، وفيه نكارة .
والذيخ{[21778]} : هو الذكر من الضباع ، كأنه حول آزر إلى صورة ذيخ متلطخ بعذرته{[21779]} ، فيلقى في النار كذلك .
وقد رواه البزار من حديث حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هُرَيرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه غرابة . ورواه أيضًا من حديث قتادة ، عن جعفر بن عبد الغافر ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه .
و قوله : وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يقول : ولا تُذِلّني بعقابك إياي يوم تبعث عبادك من قبورهم لموقف القيامة يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ يقول : لا تخزني يوم لا ينفع من كفر بك وعصاك في الدنيا مالٌ كان له في الدنيا ، ولا بنوه الذين كانوا له فيها ، فيدفع ذلك عنه عقاب الله إذا عاقبه ، ولا ينجيه منه . وقوله : إلاّ مَنْ أَتى اللّهَ بِقَلْب سَلِيمٍ يقول : ولا تخزني يوم يبعثون ، يوم لا ينفع إلا القلب السليم .
والذي عني به من سلامة القلب في هذا الموضع : هو سلام القلب من الشكّ في توحيد الله ، والبعث بعد الممات . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن عون ، قال : قلت لمحمد : ما القلب السليم ؟ قال : أن يعلم أن الله حقّ ، وأن الساعة قائمة ، وأن الله يبعث من في القبور .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد إلاّ مَنْ أَتى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ قال : لا شكّ فيه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله إلاّ مَنْ أَتى اللّهَ بِقَلْب سَلِيمٍ قال : ليس فيه شكّ في الحقّ .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ قال : سليم من الشرك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد إلاّ مَنْ أَتى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ قال : سليم من الشرك ، فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد .
حدثني عمرو بن عبد الحميد الاَمُلي ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، عن جُوَبير ، عن الضحاك ، في قول الله إلاّ مَنْ أَتى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ قال : هو الخالص .
وسأل المغفرة لأبيه قبل سؤال أن لا يخزيه الله يوم القيامة لأنه أراد أن لا يلحقه يومئذ شيء ينكسر منه خاطره وقد اجتهد في العمل المبلغ لذلك واستعان الله على ذلك وما بقيت له حزازة إلا حزازة كفر أبيه فسأل المغفرة له لأنه إذا جيء بأبيه مع الضالين لحقه انكسار ولو كان قد استجيب له بقية دعواته ، فكان هذا آخر شيء تخوف منه لحاق مهانة نفسية من جهة أصله لا من جهة ذاته . و في الحديث أنه يؤتي بأبي إبراهيم يوم القيامة في صورة ذيح { أي ضبع ذكر } فيلقى في النار فلا يشعر به أهل الموقف فذلك إجابة قوله { ولا تخزني يوم يبعثون } أي قطعا لما فيه شائبة الخزي .
وتقدم الكلام على معنى الخزي عند تفسير قوله تعالى { إلا خزي في الحياة الدنيا } في سورة البقرة ، وقوله { إنك من تدخل النار فقد أخزيته } في آل عمران .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولا تخزني} يعني: لا تعذبني {يوم يبعثون} يعني: يوم تبعث الخلق بعد الموت.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ" يقول: ولا تُذِلّني بعقابك إياي يوم تبعث عبادك من قبورهم لموقف القيامة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال أهل التأويل: {ولا تخزني} أي ولا تعذبني {يوم يبعثون} وكان الإخزاء هو العذاب الذي يهتك الستر على صاحبه. فسأله ألا يهتك الستر عليه لما خاف أن كان منه ما يهتك الستر عليه، فسأل ربه ذلك؛ إذ العصمة، لا ترفع عن أصحابها الخوف، بل كلما عظمت العصمة كان الخوف أشد، لأن الأنبياء، صلوات الله عليهم، كان خوفهم أشد على دينهم وأنفسهم من غيرهم، ثم الأمثل فالأمثل بهم كانوا أشد خوفا منهم ممن هو دونهم. ألا ترى إلى قول إبراهيم حين قال: {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} إبراهيم: 35] وقول يوسف: {توفني مسلما وألحقني بالصالحين}؟ [يوسف: 101] ومثله كثير.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والإخزاء: من الخزي وهو الهوان. ومن الخزاية وهي الحياء. وهذا أيضاً من نحو استغفارهم مما علموا أنه مغفور...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
أي لا تفضحني على رؤوس الأشهاد، أو لا تعذبني يوم القيامة. وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن إبراهيم يرى أباه يوم القيامة عليه الغبرة والقترة) والغبرة هي القترة. وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يلقى إبراهيم أباه فيقول يا رب إنك وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون فيقول الله تعالى إني حرمت الجنة على الكافرين) انفرد بهما البخاري رحمه الله.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ولا تخزني يوم يبعثون، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم).. ونستشف من قولة إبراهيم -عليه السلام -: (ولا تخزني يوم يبعثون) مدى شعوره بهول اليوم الآخر؛ ومدى حيائه من ربه، وخشيته من الخزي أمامه، وخوفه من تقصيره. وهو النبي الكريم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وسأل المغفرة لأبيه قبل سؤال أن لا يخزيه الله يوم القيامة لأنه أراد أن لا يلحقه يومئذ شيء ينكسر منه خاطره وقد اجتهد في العمل المبلغ لذلك واستعان الله على ذلك وما بقيت له حزازة إلا حزازة كفر أبيه فسأل المغفرة له لأنه إذا جيء بأبيه مع الضالين لحقه انكسار ولو كان قد استجيب له بقية دعواته، فكان هذا آخر شيء تخوف منه لحاق مهانة نفسية من جهة أصله لا من جهة ذاته. و في الحديث أنه يؤتي بأبي إبراهيم يوم القيامة في صورة ذيح، أي: ضبع ذكر، فيلقى في النار فلا يشعر به أهل الموقف فذلك إجابة قوله: {ولا تخزني يوم يبعثون} أي قطعا لما فيه شائبة الخزي...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
والدعاء الخامس يتضمن التماس العز والكرامة، وعدم التعرض للهوان والذل يوم القيامة، فهذه الأدعية الصالحة التي دعا بها إبراهيم أب الأنبياء، هي خير ما يتوجه به إلى الله الصالحون الأتقياء، وهي دليل على مزيد تعلقه بالله، ومبلغ خشيته من الله {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28]. وقد استجاب الله لإبراهيم أدعيته، وحقق بمنه وكرمه أمنيته، وليؤكد فضله عليه لدى السابقين واللاحقين، قال تعالى في كتابه المبين: {ولقد اصطفيناه في الدنيا، وإنه في الآخرة لمن الصالحين} [البقرة: 130]. أما دعاؤه الخاص لأبيه، فقد بين كتاب الله القرار الأخير فيه، فقال تعالى في سورة التوبة: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، إن إبراهيم لأواه حليم} [الآية: 114].