( قل : كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم ) . .
والعظام والرفات فيها رائحة البشرية وفيها ذكرى الحياة ؛ والحديد والحجارة أبعد عن الحياة . فيقال لهم :
كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا آخر أو غل في البعد عن الحياة من الحجارة والحديد مما يكبر في صدوركم أن تتصوروه وقد نفخت فيه الحياة . . فسيبعثكم الله .
وهم لا يملكون أن يكونوا حجارة أو حديدا أو خلقا آخر ولكنه قول للتحدي . وفيه كذلك ظل التوبيخ والتقريع ، فالحجارة والحديد جماد لا يحس ولا يتأثر ، وفي هذا إيماء من بعيد إلى ما في تصورهم من جمود وتحج !
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مّمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الّذِي فَطَرَكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىَ هُوَ قُلْ عَسَىَ أَن يَكُونَ قَرِيباً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد للمكذّبين بالبعث بعد الممات من قومك القائلين أئِذَا كُنّا عِظاما وَرُفاتا أئِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقا جَدِيدا : كونوا إن عجبتم من إنشاء الله إياكم ، وإعادته أجسامكم ، خلقا جديدا بعد بِلاكم في التراب ، ومصيركم رُفاتا ، وأنكرتم ذلك من قُدرته حجارة أو حديدا ، أو خلقا مما يكبر في صدوركم إن قدرتم على ذلك ، فإني أحييكم وأبعثكم خلقا جديدا بعد مصيركم كذلك كما بدأتكم أوّل مرّة .
واختلف أهل التأويل في المعنىّ بقوله أوْ خَلْقا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فقال بعضهم : عُنِي به الموت ، وأريد به : أو كونوا الموت ، فإنكم إن كنتموه أمتّكم ثم بعثتكم بعد ذلك يوم البعث . ذكر من قال ذلك :
حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية ، عن ابن عمر أوْ خَلْقا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ قال : الموت ، قال : لو كنتم موتى لأحييتكم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله أوْ خَلْقا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ يعني الموت . يقول : إن كنتم الموت أحييتكم .
حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : حدثنا أبو مالك الجنبي ، قال : حدثنا ابن أبي خالد ، عن أبي صالح في قوله أوْ خَلْقا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ قال : الموت .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا سليمان أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : أوْ خَلْقا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ قال : الموت .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال سعيد بن جبير ، في قوله : أوْ خَلْقا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ كونوا الموت إن استطعتم ، فإن الموت سيموت قال : وليس شيء أكبر في نفس ابن آدم من الموت .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : بلغني ، عن سعيد بن جبير ، قال : هو الموت .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمر ، أنه كان يقول : «يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح حتى يُجعل بين الجنة والنار ، فينادى مناد يُسمِع أهلَ الجنة وأهل النار ، فيقول : هذا الموت قد جئنا به ونحن مهلكوه ، فأيقنوا يا أهل الجنة وأهل النار أن الموت قد هلك » .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : أوْ خَلْقا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ يعني الموت ، يقول : لو كنتم الموت لأمتكم .
وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : إن الله يجيء بالموت يوم القيامة ، وقد صار أهل الجنة وأهل النار إلى منازلهم ، كأنه كبش أملح ، فيقف بين الجنة والنار ، فينادي أهل الجنة وأهل النار هذا الموت ، ونحن ذابحوه ، فأيقنوا بالخلود .
وقال آخرون : عنى بذلك السماء والأرض والجبال . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة أوْ خَلْقا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ قال : السماء والأرض والجبال .
وقال آخرون : بل أريد بذلك : كونوا ما شئتم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد كُونُوا حِجارَةً أوْ حَدِيدا أوْ خَلْقا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ قال : ما شئتم فكونوا ، فسيعيدكم الله كما كنتم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أوْ حَدِيدا أوْ خَلْقا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ قال : من خلق الله ، فإن الله يميتكم ثم يبعثكم يوم القيامة خلقا جديدا .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره قال : أوْ خَلْقا ممّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ، وجائز أن يكون عنى به الموت ، لأنه عظيم في صدور بني آدم وجائز أن يكون أراد به السماء والأرض وجائز أن يكون أراد به غير ذلك ، ولا بيان في ذلك أبين مما بين جلّ ثناؤه ، وهو كلّ ما كبر في صدور بني آدم من خلقه ، لأنه لم يخصص منه شيئا دون شيء .
وأما قوله : فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا فإنه يقول : فسيقول لك يا محمد هؤلاء الذين لا يؤمنون بالاَخرة مَنْ يُعِيدُنا خلقا جديدا ، إن كنا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدورنا ، فقل لهم : يعيدكم الّذِي فَطَرَكُمْ أوّلَ مَرّةٍ يقول : يعيدكم كما كنتم قبل أن تصيروا حجارة أو حديدا إنسا أحياء ، الذي خلقكم إنسا من غير شيء أوّل مرّة ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قُلِ الّذِي فَطَرَكُمْ أوّلَ مَرّةٍ أي خلقكم فَسَيُنْغَضُونَ إلَيْكَ رُءُوسَهُمْ يقول : فإنك إذا قلت لهم ذلك ، فسيهزّون إليك رءوسهم برفع وخفض وكذلك النّغْض في كلام العرب ، إنما هو حركة بارتفاع ثم انخفاض ، أو انخفاض ثم ارتفاع ، ولذلك سمي الظليم نَغْضا ، لأنه إذا عجل المشي ارتفع وانخفض ، وحرّك رأسه ، كما قال الشاعر :
*** أسكّ نَغْضا لا يَنِي مُسْتَهْدِجا ***
ويقال : نَغَضَت سنه : إذا تحرّكت وارتفعت من أصلها ومنه قول الراجز :
*** نَغَضَتْ مِنْ هَرِمٍ أسْنانُها ***
*** لمّا رأتْنِي أنْغَضَتْ ليَ الرأسا ***
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَسَيُنْغِضُونَ إلَيْكَ رُءُوسَهُمْ أي يحرّكون رءوسهم تكذيبا واستهزاء .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة فَسَيُنْغِضُونَ إلَيْكَ رُءُوُسَهُمْ قال : يحرّكون رءوسهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله فَسَيُنْغِضُونَ إلَيْكَ رُءُوسَهُمْ يقول : سيحركونها إليك استهزاء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراسانيّ ، عن ابن عباس فسَيُنْغِضُونَ إلَيْكَ رُءُوسَهُمْ قال : يحرّكون رءوسهم يستهزءون ويقولون متى هو .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فسَيُنْغِضُونَ إلَيْكَ رُءُوسَهُمْ يقول : يهزؤون .
وقوله : وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ يقول جلّ ثناؤه : ويقولون متى البعث ، وفي أيّ حال ووقت يعيدنا خلقا جديدا ، كما كنا أوّل مرّة ؟ قال الله عزّ وجلّ لنبيه : قل لهم يا محمد إذ قالوا لك : متى هو ، متى هذا البعث الذي تعدنا ؟ : عسى أن يكون قريبا وإنما معناه : هو قريب ، لأن عسى من الله واجب ، ولذلك قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «بُعِثْتُ أنا والسّاعَةُ كَهاتَيْن ، وأشار بالسّبابة والوُسطَى » ، لأن الله تعالى كان قد أعلمه أنه قريب مجيب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.