ولقد كان شيوخ قريش يلقبون بذوي الحلوم . أو ذوي الأحلام . إشارة إلى رجاحة عقولهم وحكمتهم في تصريف الأمور . فهو يتهكم بهم وبأحلامهم تجاه الإسلام . وموقفهم منه ينافي الحكمة والعقل ، فيسأل في تهكم : أهذه الأوصاف التي يصفون بها محمدا [ صلى الله عليه وسلم ] وتلك المواقف التي يقفونها من رسالته كانت من وحي أحلامهم ? أم أنهم طغاة ظالمون لا يقفون عند ما تمليه الأحلام والعقول :
( أم تأمرهم أحلامهم بهذا ? أم هم قوم طاغون ) !
وفي السؤال الأول تهكم لاذع . وفي السؤال الثاني اتهام مزر . وواحد منهما لا بد لاحق بهم في موقفهم المريب !
قومٌ طاغون : ظالمون تجاوزوا حد المكابرة والعناد .
ثم سفّه أحلامَهم بقوله تعالى : { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بهاذآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ؟ }
هل تأمرهم عقولهم بهذا القول المتناقِض ، فالكاهنُ والشاعر من أهلِ الفطنة والعقل والذكاء ، والمجنونُ لا عقل له ، فكيف بكون شاعراً أو مجنوناً ! ؟ ، بل الحقّ أنهم قومٌ طاغون ، يفتَرون الأقاويل دون دليل عليها .
{ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } أي : أهذا التكذيب لك ، والأقوال التي قالوها ؟ هل صدرت عن عقولهم وأحلامهم ؟ فبئس العقول والأحلام ، التي أثرت ما أثرت ، وصدر منها ما صدر{[882]} .
فإن عقولا جعلت أكمل الخلق عقلا مجنونا ، وأصدق الصدق{[883]} وأحق الحق كذبا وباطلا ، لهي العقول التي ينزه المجانين عنها ، أم الذي حملهم على ذلك ظلمهم وطغيانهم ؟ وهو الواقع ، فالطغيان ليس له حد{[884]} يقف عليه ، فلا يستغرب من الطاغي المتجاوز الحد كل قول وفعل صدر منه .
قوله تعالى : " أم تأمرهم أحلامهم " أي عقولهم " بهذا " أي بالكذب عليك . " أم هم قوم طاغون " أي أم طغوا بغير عقول . وقيل : " أم " بمعنى بل ، أي بل كفروا طغيانا وإن ظهر لهم الحق . وقيل لعمرو بن العاص : ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله بالعقل ؟ فقال : تلك عقول كادها الله ، أي لم يصحبها بالتوفيق . وقيل : " أحلامهم " أي أذهانهم ؛ لأن العقل لا يعطى للكافر ولو كان له عقل لآمن . وإنما يعطى الكافر الذهن فصار عليه حجة . والذهن يقبل العلم جملة ، والعقل يميز العلم ويقدر المقادير لحدود الأمر والنهي . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال : يا رسول الله ، ما أعقل فلانا النصراني ! فقال : ( مه إن الكافر لا عقل له أما سمعت قول الله تعالى : " وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير " [ الملك : 10 ] ) . وفي حديث ابن عمر : فزجره النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : ( مه فإن العاقل من يعمل بطاعة الله ) ذكره الترمذي الحكيم أبو عبدالله بإسناده .
ولما كان قولهم هذا مما لا يقال أصلاً وإن قيل على بعده كان قوله كأنه على جهة سبق اللسان أو{[61587]} نحو ذلك ، نبه عليه بمعادلة ما تقديره : أقالوا ذلك ذهولاً : { أم تأمرهم } أي تزين لهم تزييناً يصير مآلهم إليه من الانبعاث كالأمر { أحلامهم } أي عقولهم التي يزعمون أنهم اختصوا بجودتها دون الناس بحيث إنه كان يقال فيهم : أولوا الأحلام والنهي { بهذا } أي وهم يعتقدون صحته وأنه العدل السواء لأنهم متقيدون بالأحلام والنهي على ما فيه من الفساد بالتناقض بعد اختلال كل قول منه على حدته كما{[61588]} تقدم بيانه ، وهو توبيخ عظيم بالإشارة إلى أنه ليست لهم عقول أصلاً لقولهم هذا ، فإن الكاهن شرطه أن يكون في غاية المعرفة عندهم حتى أنهم يجعلونه حكماً و{[61589]}ربما عبدوه ، والمجنون لا يصلح لصالحة لأنه لا يعقل ، والشاعر بعيد الأمر بوزن الكلام وكثرته من سجع الكاهن وغيره{[61590]} وكلام المجنون : { أم هم } بظواهرهم وبواطنهم { قوم } أي ذوو قوة على ما يحاولونه فهم لذلك { طاغون } أي مجازون للحدود ، وذلك عادة لهم بما أفهمه الوصف ، فهم لذلك لا يبالون بالعناد الظاهر في مخالفته لما تأمر به الأحلام والنهى ، ولا يقوله إلا الطغاة السفهاء مع ظهور الحق لهم ، فهم يقولون الكلام المتناقض غير مبالين بأحد ولا مستحيين من أن ينسبوا إلى العدوان والمبالغة في العصيان{[61591]} ، والآية من الاحتباك : ذكر الأحلام أولاً دليلاً على ضدها ثانياً ، والطغيان ثانياً على ضده " العدل السواء " أولاً ، وسره أن ما ذكر أشد{[61592]} تنفيراً من السوء وأعظم تقبيحاً له وتحذيراً منه