أي : إذا لم يؤمنوا بالقرآن الكريم مع وضوح حجته واكتمال فصاحته وبلاغته ، فبأي كلام يؤمنون ؟
وذلك كقوله تعالى : فبأيّ حديث بعد الله وآياته يؤمنون . ( الجاثية : 6 ) .
روي عن أبي هريرة : إذا قرأ : والمرسلات عرفا . فقرأ : فبأيّ حديث بعده يؤمنون . فلقيل : آمنت بالله وبما أنزل . أخرجه ابن أبي حاتم .
عن ابن عباس أن أمّ الفضل سمعته يقرأ : والمرسلات عرفا . فقالت : يا بنيّ : ذكرتني بقراءتك هذه السورة ، إنها لآخر ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب6 .
وقد أخرجه الشيخان من طريق مالك عن الزهري .
وكان الفراغ من تفسير الجزء ( التاسع والعشرين ) من القرآن الكريم عصر يوم الإثنين 29 من المحرم 1422 ه ، الموافق 23/4/2001 م ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
1 في ظلال القرآن 29/ 231 ، بتصرف .
2 تفسير الطبري 29/142 مطبعة بولاق ، الطبعة الأولى ، 1329 ه .
3 الكفات : ما يكفت ، أي يضم ويجمع .
والمستجير بعمر عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار
والرمضاء هي الرمل الساخن من شدة الحر ، أي من قصد عمرا وهو في كربة فلن يجد ما يخفف عنه ، بل سيجد ما يزيده ألما ، وينقله إلى ما هو أشد ، كمن ينتقل من حرارة الرمال إلى حرارة النار . وكذلك الكفار ينتقلون من حرارة المحشر إلى ظل خانق لا يحمى من الحرّ ولا يقي من النار ، وهو ظل مؤلم لا مريح .
6 يا بني والله لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة :
رواه البخاري في الآذان ( 763 ) ومسلم في الصلاة ( 462 ) وأبو داود في الصلاة ( 810 ) وأحمد في مسنده ( 26344 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : إن أم الفضل سمعته وهو يقرأ : { والمرسلات عرفا } فقالت : يا بني والله لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لآخر ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب .
ثم ختم السورة بالتعجب من هؤلاء الجاحدين الذين لم يؤمنوا ولم يستجيبوا لنصح الداعي ولم يتبعوا المرسلين ، فقال :
{ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ }
إذا لم يؤمنوا بهذه الدلائل والمعجزات ، ولم يستمعوا لهذا القرآن العظيم ، فبأي كلامٍ بعده يصدّقون .
قرأ الجمهور : فبأيّ حديث بعده يؤمنون بالياء . وقرأ ابن عامر ويعقوب : تؤمنون بالتاء .
{ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } أبالباطل الذي هو كاسمه ، لا يقوم عليه شبهة فضلا عن الدليل ؟ أم بكلام كل مشرك كذاب أفاك مبين ؟ .
فليس بعد النور المبين إلا دياجى الظلمات ، ولا بعد الصدق الذي قامت الأدلة والبراهين على صدقه إلا الكذب الصراح والإفك المبين{[1330]} ، الذي لا يليق إلا بمن يناسبه .
قوله تعالى : " فبأي حديث بعده يؤمنون " أي إن لم يصدقوا بالقرآن الذي هو المعجز والدلالة على صدق الرسول عليه السلام ، فبأي شيء يصدقون ! وكرر : " ويل يومئذ للمكذبين " لمعنى تكرير التخويف والوعيد . وقيل : ليس بتكرار ، لأنه أراد بكل قول منه غير الذي أراد بالآخر ، كأنه ذكر شيئا فقال : ويل لمن يكذب بهذا ، ثم ذكر شيئا آخر فقال : ويل لمن يكذب بهذا ، ثم ذكر شيئا آخر فقال : ويل لمن يكذب بهذا . ثم كذلك إلى آخرها . ختمت السورة ولله الحمد .
ولما أعلم هذا{[71002]} أن لهم الويل دائماً ، ذكر أن سببه عدم الإيمان بالقرآن وأن من لم يؤمن بالقرآن لم يؤمن بشيء أبداً ، فقال مسبباً عن معنى الكلام : { فبأيّ حديث } أي ذكر يتجدد نزوله على المرسل به في كل وقت تدعو إليه حاجة { بعده } أي بعد هذا القرآن الذي هو شاهد لنفسه عنه بصحة النسبة إلى الله تعالى من جهة ما حاز من البلاغة في تراكيبه بالنسبة إلى كل جملة وبالنسبة إلى نظم{[71003]} الجمل بعضها مع بعض ، وبالإخبار بالمغيبات والحمل على المعالي والتنبيه على الحكم وغير ذلك من بحور العلم ورياض الفنون ، فالله باعتبار ذلك هو الشاهد بأنه كلامه { يؤمنون * } أي يجددون{[71004]} الإيمان بسببه{[71005]} بكل ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث الذي الله شاهد بأنه كلامه بما اشتمل عليه بعد إعجازه من الدلائل الواضحة ، والمعاني الشريفة الصالحة ، والنظوم الملائمة للطبع والرقائق المرققة لكل قلب ، والبشائر {[71006]}المشوقة لكل سمع{[71007]} ، فمن لم يؤمن به لم يؤمن بحديث غيره ، فإنه لا شيء يقاربه {[71008]}ولا يدانيه{[71009]} ، فكيف بأن-{[71010]} يدعي شيء يباريه أو{[71011]} يراقيه ، ومثل هذا إنما يقال عند مقاربة اليأس من الموعوظ والعادة قاضية بحلول العذاب إذ ذاك وإنزال البأس ، فهو من أعظم{[71012]} أنواع التهديد ، فقد رجع آخرها على أولها في وعيد المكذبين ، وانطبق أولها على آخرها في إخزاء{[71013]} المجرمين - والله الهادي للصواب{[71014]} .