واستطرادا في تهوين أمرهم ، وتصغير شأنهم ، وتنكيس كبريائهم ، يقرر أن الله قادر على أن يخلق خيرا منهم ، وأنهم لا يعجزونه فيذهبون دون ما يستحقون من جزاء أليم :
( فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون ، على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين ) .
والأمر ليس في حاجة إلى قسم . ولكن التلويح بذكر المشارق والمغارب ، يوحي بعظمة الخالق . والمشارق والمغارب قد تعني مشارق النجوم الكثيرة ومغاربها في هذا الكون الفسيح . كما أنها قد تعني المشارق والمغارب المتوالية على بقاع الأرض . وهي تتوالى في كل لحظة . ففي كل لحظة أثناء دوران الأرض حول نفسها أمام الشمس يطلع مشرق ويختفي مغرب . . .
وأيا كان مدلول المشارق والمغارب ، فهو يوحي إلى القلب بضخامة هذا الوجود ، وبعظمة الخالق لهذا الوجود . فهل يحتاج أمر أولئك المخلوقين مما يعلمون إلى قسم برب المشارق والمغارب ، على أنه - سبحانه - قادر على أن يخلق خيرا منهم ، وأنهم لا يسبقونه ولا يفوتونه ولا يهربون من مصيرهم المحتوم ? ! .
بمسبوقين : بمغلوبين ، إن شئنا تبديلهم خير منهم .
40 ، 41- فلا أقسم بربّ المشارق والمغارب إنا لقادرون* على أن نبدّل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين .
أي أقسم بالله الخالق ، رب المشارق والمغارب ، أي مشارق الشمس والقمر والنجوم ومغاربها ، فللشمس في كل يوم من أيام السنة منزلة لشروقها ومنزلة لغروبها ، وكذلك القمر والنجوم ، أو المراد مشارق الشمس وهي في كل لحظة تشرق في مكان وتغرب عن مكان ، وكذلك القمر والنجوم ، وكل ذلك يوحي بالعظمة والجلال ، والقدرة والإبداع للخالق المبدع الذي أحسن كل شيء خلقه .
قال تعالى : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون . ( غافر : 57 ) .
وقد أقسم القرآن بجهتي الشرق والغرب ، والمراد بهما الجنس ، فهما صادقان على كل مشرق من مشارق الشمس ، وعلى مغرب من مغاربها ، وبذلك يتبين أنه لا تعارض بين مجيء لفظتي الشرق والغرب تارة بصيغة المفرد ، وتارة بصيغة المثنى ، وتارة بصيغة الجمع .
فقال تعالى : رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا . ( المزمل : 9 ) .
وقال تعالى : رب المشرقين ورب المغربين . ( الرحمان : 17 ) .
أي : مشرق ومغرب الشتاء والصيف ، أو الشمس والقمر .
وقال تعالى : فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون .
والمقصود بيان عظمته تعالى وقدرته ، وبديع خلقه ، والتهوين من أمر الكافرين .
على أن نبدّل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين .
أي : أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نذهب بهؤلاء الكافرين كما أهلكنا من سبقهم من المكذبين ، وأن نأتي بقوم أطوع لله منهم ، وأفضل استقامة ، وأكثر اعترافا بفضل الله ، وما نحن بمغلوبين على أمرنا ، ولا توجد قوة تمنعنا عن تنفيذ ما نريد ، سوى أن حكمتنا البالغة اقتضت تأخير عقوبتهم .
قال تعالى : يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد* إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد* وما ذلك على الله بعزيز . ( فاطر : 15- 17 ) .
{ على أن نبدل } أي{[68510]} تبديلاً عظيماً بما لنا من الجلالة عوضاً عنهم { خيراً منهم } أي بالخلق أو{[68511]} تحويل الوصف فيكونوا أشد بسطة في الدنيا وأكثر أموالاً وأولاداً وأعلى قدراً وأكثر حشماً و{[68512]}وجاهة وحزماً{[68513]} وخدماً ، فيكونوا{[68514]} عندك خلقاً على قلب واحد في سماع قولك وتوقيرك وتعظيمك والسعي في كل ما يشرح صدرك بدل ما يعمل هؤلاء من الهزء والتصفيق والصفير وكل ما يضيق به صدرك ، وقد فعل ذلك سبحانه بالمهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان بالسعة في الرزق بأخذ أموال الجبارين من كسرى وقيصر ، والتمكن{[68515]} في الأرض حتى كانوا ملوك الدنيا مع العمل بما يوجب لهم ملك{[68516]} الآخرة ، فرجوا الكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلوا في مرضاته الأنفس والأموال .
ولما كان الإنسان{[68517]} قد يفعل شيئاً ثم ينقض عليه ، أخبر أنه سبحانه على غير ذلك فقال : { وما } وأكد الأمر بالأسمية الكائنة في مظهر العظمة فقال : { نحن } وأعرق في النفي فقال : { بمسبوقين * } أي من سابق ما يغلب على شيء لم نرده بوجه من الوجوه ، {[68518]}ولذلك{[68519]} أتى باسم المفعول .