ثم يقسم بالسماء وبنائها : ( والسماء وما بناها ) . . ( وما )هنا مصدرية . ولفظ السماء حين يذكر يسبق إلى الذهن هذا الذي نراه فوقنا كالقبة حيثما اتجهنا ، تتناثر فيه النجوم والكواكب السابحة في أفلاكها ومداراتها . فأما حقيقة السماء فلا ندريها . وهذا الذي نراه فوقنا متماسكا لا يختل ولا يضطرب تتحقق فيه صفة البناء بثباته وتماسكه . أما كيف هو مبني ، وما الذي يمسك أجزاءه فلا تتناثر وهو سابح في الفضاء الذي لا نعرف له أولا ولا آخرا . . فذلك ما لا ندريه . وكل ما قيل عنه مجرد نظريات قابلة للنقض والتعديل . ولا قرار لها ولا ثبات . .
إنما نوقن من وراء كل شيء أن يد الله هي تمسك هذا البناء : ( إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا . ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ) . . وهذا هو العلم المستيقن الوحيد !
أي : وأقسم بالسماء وبالله الذي رفعها وأحكم بناءها ، وجعلها سقفا محفوظا ، مرتفعا ممتدا ، ليس به خلل ولا اضطراب ، بل به الإحكام وقوة البناء والتماسك ، في نظام الشمس والقمر والكواكب والبروج ، وحركة النجوم ومواقعها ، بحيث لا يحدث اضطراب أو خلل ، بل كل في فلك يسبحون ، كل ذرة ومجرة ، كل موجود قد أخذ طريقه ، فالشمس والقمر والفضاء والهواء ، والملائكة والنجوم والكواكب والمجرات والبروج ، وكل كائن قد عرف طريقه ، وأحكم الله خلقه ، وقدّره تقديرا وأبدعه إبداعا ، ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت . . . ( الملك : 3 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جلّ ثناؤه : والسماء ومَنْ بناها ، يعني : ومَنْ خلَقها ، وبناؤه إياها، تصييره إياها للأرض سقفا . وقيل : "وَما بَناها" وهو جلّ ثناؤه بانيها .
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال أبو بكر الأصم : إن هذه الآيات في قوله { والسماء وما بناها } { والأرض وما طحاها } { ونفس وما سواها } تخرج على التعجيب ...
ما الفائدة في قوله : { والسماء وما بناها } ؟
( الجواب ) : أنه سبحانه لما وصف الشمس بالصفات الأربعة الدالة على عظمتها ، أتبعه ببيان ما يدل على حدوثها وحدوث جميع الأجرام السماوية ، فنبه بهذه الآية على تلك الدلالة ، وذلك لأن الشمس والسماء متناهية ، وكل متناه فإنه مختص بمقدار معين . مع أنه كان يجوز في العقل وجود ما هو أعظم منه ، وما هو أصغر منه ، فاختصاص الشمس وسائر السماويات بالمقدار المعين ، لابد وأن يكون لتقدير مقدر وتدبير مدبر ، وكما أن باني البيت يبنيه بحسب مشيئته ، فكذا مدبر الشمس وسائر السماويات قدرها بحسب مشيئته ، فقوله : { وما بناها } كالتنبيه على هذه الدقيقة الدالة على حدوث الشمس وسائر السماويات .
لم قال : { وما بناها } ولم يقل : ومن بناها ؟
( الأول ) : أن المراد هو الإشارة إلى الوصفية ، كأنه قيل : والسماء وذلك الشيء العظيم القادر الذي بناها ، ونفس والحكيم الباهر الحكمة الذي سواها.
( والثاني ) : أن ما تستعمل في موضع من كقوله : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } والاعتماد على الأول ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ والسماء } أي التي هي محل ذلك كله ومجلاه كما أن الأبدان محل النفوس ، والنفوس مركب العقول.... { وما بناها } أي هذا البناء المحكم الذي ركب فيه ما ذكره إشارة إلى ما وراءه مما يعجز الوصف . ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فأما حقيقة السماء فلا ندريها . وهذا الذي نراه فوقنا متماسكا لا يختل ولا يضطرب تتحقق فيه صفة البناء بثباته وتماسكه . أما كيف هو مبني ، وما الذي يمسك أجزاءه فلا تتناثر وهو سابح في الفضاء الذي لا نعرف له أولا ولا آخرا . . فذلك ما لا ندريه . وكل ما قيل عنه مجرد نظريات قابلة للنقض والتعديل . ولا قرار لها ولا ثبات . . إنما نوقن من وراء كل شيء أن يد الله هي تمسك هذا البناء : ( إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا . ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ) . . وهذا هو العلم المستيقن الوحيد ! ...
قوله تعالى { والسماء وما بناها }
أي وبنيانها . فما مصدرية ، كما قال : " بما غفر لي ربي{[16092]} " [ يس : 27 ] أي بغفران ربي . قاله قتادة . واختاره المبرد . وقيل : المعنى ومن بناها . قاله الحسن ومجاهد . وهو اختيار الطبري . أي ومن خلقها ورفعها ، وهو الله تعالى . وحكي عن أهل الحجاز : سبحان ما سبحت له ، أي سبحان من سبحت له .
{ والسماء وما بناها } قيل : إن " ما " في قوله : { وما بناها } و{ ما طحاها } و{ ما سواها } موصولة بمعنى " من " والمراد الله تعالى ، وقيل : إنها مصدرية كأنه قال والسماء وبنيانها ، وضعف الزمخشري ذلك بقوله : { فألهمها } فإن المراد الله باتفاق ، وهذا القول يؤدي إلى فساد النظم ، وضعف بعضهم كونها موصولة بتقديم ذكر المخلوقات على الخالق فإن قيل : لم عدل عن " من " إلى قوله : " ما " في قول من جعلها موصولة ؟ فالجواب : أنه فعل ذلك لإرادة الوصفية كأنه قال والقادر الذي بناها .
ولما ذكر الآيتين ومحل أثرهما ، ذكر محل الكل فقال تعالى : { والسماء } أي التي هي محل ذلك كله ومجلاه كما أن الأبدان محل النفوس ، والنفوس مركب العقول ، ولما رقى الأفكار من أعظم المحسوسات المماسة إلى ما هو دونه في الحس وفوقه في الاحتياج إلى إعمال فكر ، رقي إلى الباطن الأعلى المقصود بالذات وهو المبدع لذلك كله معبراً عنه بأداة ما لا يعقل ، مع الدلالة بنفس الإقسام ، على أن له العلم التام ، والإحاطة الكبرى بالحكمة البالغة ، تنبيهاً على أنهم وصفوه بالإشراك وإنكار الحشر بتلك المنزلة السفلى والمساواة بالجمادات التي عبدوها مع ما له من صفات الكمال التي ليس لغيره ما يداني شيئاً منها ، زجراً لهم بالإشارة والإيماء عن ذلك ومشيراً إلى شدة التعجيب منهم لكونها أداة التعجب فقال : { وما بناها * } أي هذا البناء المحكم الذي ركب فيه ما ذكره إشارة إلى ما وراءه مما يعجز الوصف .