البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَىٰهَا} (5)

وما في قوله : { وَمَا بَنَاهَا *وَمَا طَحَاهَا * وَمَا سَوَّاهَا } ، بمعنى الذي ، قاله الحسن ومجاهد وأبو عبيدة ، واختاره الطبري ، قالوا : لأن ما تقع على أولي العلم وغيرهم . وقيل : مصدرية ، قاله قتادة والمبرد والزجاج ، وهذا قول من ذهب إلى أن ما لا تقع على آحاد أولي العلم . وقال الزمخشري : جعلت مصدرية ، وليس بالوجه لقوله : { فَأَلْهَمَهَا } ، وما يؤدي إليه من فساد النظم والوجه أن تكون موصولة ، وإنما أوثرت على من لإرادة معنى الوصفية ، كأنه قيل : والسماء والقادر العظيم الذي بناها ، ونفس والحكيم الباهر الحكمة الذي سواها ، وفي كلامهم سبحان من سخركن لنا ، انتهى . أما قوله : وليس بالوجه لقوله : { فَأَلْهَمَهَا } ، يعني من عود الضمير في { فَأَلْهَمَهَا } على الله تعالى ، فيكون قد عاد على مذكور ، وهو ما المراد به الذي ، ولا يلزم ذلك لأنا إذا جعلناها مصدرية عاد الضمير على ما يفهم من سياق الكلام ؛ ففي بناها ضمير عائد على الله تعالى ، أي وبناها هو ، أي الله تعالى ، كما إذا رأيت زيداً قد ضرب عمراً فقلت : عجبت مما ضرب عمراً تقديره : من ضرب عمر ؟ وهو كان حسناً فصيحاً جائزاً ، وعود الضمير على ما يفهم من سياق الكلام كثير ، وقوله : وما يؤدي إليه من فساد النظم ليس كذلك ، ولا يؤدي جعلها مصدرية إلى ما ذكر ، وقوله إنما أوثرت إلخ لا يراد بما ولا بمن الموصولتين معنى الوصفية ، لأنهما لا يوصف بهما ، بخلاف الذي ، فاشتراكهما في أنهما لا يؤديان معنى الوصفية موجود فيهما ، فلا ينفرد به ما دون من ، وقوله : وفي كلامهم إلخ . تأوله أصحابنا على أن سبحان علم وما مصدرية ظرفية . وقال الزمخشري : فإن قلت : الأمر في نصب إذا معضل ، لأنك إما أن تجعل الواوات عاطفة فتنصب بها وتجر ، فتقع في العطف على عاملين ، وفي نحو قولك : مررت أمس بزيد واليوم عمرو ؛ وأما أن تجعلهن للقسم ، فتقع فيما اتفق الخليل وسيبويه على استكراهه . قلت : الجواب فيه أن واو القسم مطرح معه إبراز الفعل إطراحاً كلياً ، فكان لها شأن خلاف شأن الباء ، حيث أبرز معها الفعل وأضمر ، فكانت الواو قائمة مقام الفعل ، والباء سادة مسدهما معاً ، والواوات العواطف نوائب عن هذه ، فحقهن أن يكن عوامل على الفعل والجار جميعاً ، كما تقول ؛ ضرب زيد عمراً وبكر خالداً ، فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام ضرب الذي هو عاملهما ، انتهى . أما قوله في واوات العطف فتنصب بها وتجر فليس هذا بالمختار ، أعني أن يكون حرف العطف عاملاً لقيامه مقام العامل ، بل المختار أن العمل إنما هو للعامل في المعطوف عليه ، تم إنا لإنشاء حجة في ذلك . وقوله : فتقع في العطف على عاملين ، ليس ما في الآية من العطف على عاملين ، وإنما هو من باب عطف اسمين مجرور ومنصوب على اسمين مجرور ومنصوب ، فحرف العطف لم ينب مناب عاملين ، وذلك نحو قولك : امرر بزيد قائماً وعمرو جالساً ؟ وقد أنشد سيبويه في كتابه :

فليس بمعروف لنا أن نردها *** صحاحاً ولا مستنكران تعقرا

فهذا منعطف مجرور ، ومرفوع على مجرور ومرفوع ، والعطف على عاملين فيه أربع مذاهب ، وقد نسب الجواز إلى سيبويه وقوله في نحو قولك : مررت أمس بزيد واليوم عمرو ، وهذا المثال مخالف لما في الآية ، بل وزان ما في الآية : مررت بزيد أمس وعمرو اليوم ، ونحن نجيز هذا . وأما قوله على استكراه فليس كما ذكر ، بل كلام الخليل يدل على المنع . قال الخليل : في قوله عز وجل :

{ وَالّلَيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأنثَى }

الواوان الأخيرتان ليستا بمنزلة الأولى ، ولكنهما الواوان اللتان يضمان الأسماء إلى الأسماء في قولك : مررت بزيد وعمرو ، والأولى بمنزلة الباء والتاء ، انتهى .

وأما قوله : إن واو القسم مطرح معه إبراز الفعل إطراحاً كلياً ، فليس هذا الحكم مجمعاً عليه ، بل قد أجاز ابن كيسان التصريح بفعل القسم مع الواو ، فتقول : أقسم أو أحلف والله لزيد قائم . وأما قوله : والواوات العواطف نوائب عن هذه الخ ، فمبني على أن حرف العطف عامل لنيابته مناب العامل ، وليس هذا بالمختار . والذي نقوله : إن المعضل هو تقرير العامل في إذا بعد الاقسام ، كقوله :

{ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى }

{ وَالَّليْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ }

{ وَالْقَمَرِ إِذَا تلاَهَا } ،

{ وَالّلَيْلِ إِذَا يَغْشَى }

وما أشبهها . فإذا ظرف مستقبل ، لا جائز أن يكون العامل فيه فعل القسم المحذوف ، لأنه فعل إنشائي . فهو في الحال ينافي أن يعمل في المستقبل لإطلاق زمان العامل زمان المعمول ، ولا جائز أن يكون ثم مضاف محذوف أقيم المقسم به مقامه ، أي : وطلوع النجم ، ومجيء الليل ، لأنه معمول لذلك الفعل . فالطلوع حال ، ولا يعمل فيه المستقبل ضرورة أن زمان المعمول زمان العامل ، ولا جائز أن يعمل فيه نفس المقسم به لأنه ليس من قبيل ما يعمل ، سيما إن كان جزماً ، ولا جائز أن يقدر محذوف قبل الظرف فيكون قد عمل فيه ، ويكون ذلك العامل في موضع الحال وتقديره : والنجم كائناً إذا هوى ، والليل كائناً إذا يغشى ، لأنه لا يلزم كائناً أن يكون منصوباً بالعامل ، ولايصح أن يكون معمولاً لشيء مما فرضناه أن يكون عاملاً . وأيضاً فقد يكون القسم به جثة ، وظروف الزمان لا تكون أحوالاً عن الجثث ، كما لا تكون أخباراً .