في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{عَيۡنٗا يَشۡرَبُ بِهَا ٱلۡمُقَرَّبُونَ} (28)

ووصفه بأنه مختوم ختامه مسك ، قد يفيد أنه معد في أوانيه ، وأن هذه الأواني مقفلة مختومة ، تفض عند الشراب ، وهذا يلقي ظل الصيانة والعناية ! . كما أن جعل الختم من المسك فيه أناقة ورفاهية ! وهذه الصورة لا يدركها البشر إلا في حدود ما يعهدون في الأرض . فإذا كانوا هنالك كانت لهم أذواق ومفاهيم تناسب تصورهم الطليق من جو الأرض المحدود !

وقبل أن يتم وصف الشراب الذي يجيء في الآيتين التاليتين : ( ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون ) . . أي أن هذا الرحيق المختوم يفض ختامه ثم يمزج بشيء من هذه العين المسماة : ( تسنيم )التي ( يشرب بها المقربون ) . . قبل أن يتم الوصف يلقي بهذا الإيقاع ، وبهذا التوجيه : ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) . . وهو إيقاع عميق يدل على كثير . . .

إن أولئك المطففين ، الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ، ولا يحسبون حساب اليوم الآخر ، ويكذبون بيوم الحساب والجزاء ، ويرين على قلوبهم الإثم والمعصية . . إن هؤلاء إنما يتنافسون في مال أو متاع من متاع الأرض الزهيد . يريد كل منهم أن يسبق إليه ، وأن يحصل على أكبر نصيب منه . ومن ثم يظلم ويفجر ويأثم ويرتكب ما يرتكب في سبيل متاع من متاع الأرض زائل . .

وما في هذا العرض القريب الزهيد ينبغي التنافس . إنما يكون التنافس في ذلك النعيم وفي ذلك التكريم : ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) . . فهو مطلب يستحق المنافسة ، وهو أفق يستحق السباق ، وهو غاية تستحق الغلاب .

والذين يتنافسون على شيء من أشياء الأرض مهما كبر وجل وارتفع وعظم ، إنما يتنافسون في حقير قليل فان قريب . والدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة . ولكن الآخرة ثقيلة في ميزانه . فهي إذن حقيقة تستحق المنافسة فيها والمسابقة . .

ومن عجب أن التنافس في أمر الآخرة يرتفع بأرواح المتنافسين جميعا . بينما التنافس في أمر الدنيا ينحط بها جميعا . والسعي لنعيم الآخرة يصلح الأرض ويعمرها ويطهرها للجميع . والسعي لعرض الدنيا يدع الأرض مستنقعا وبيئا تأكل فيه الديدان بعضها البعض . أو تنهش فيه الهوام والحشرات جلود الأبرار الطيبين !

والتنافس في نعيم الآخرة لا يدع الأرض خرابا بلقعا كما قد يتصور بعض المنحرفين . إنما يجعل الإسلام الدنيا مزرعة الآخرة ، ويجعل القيام بخلافة الأرض بالعمار مع الصلاح والتقوى وظيفة المؤمن الحق . على أن يتوجه بهذه الخلافة إلى الله ، ويجعل منها عبادة له تحقق غاية وجوده كما قررها الله - سبحانه - وهو يقول : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون .

وإن قوله ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) . . لهو توجيه يمد بأبصار أهل الأرض وقلوبهم وراء رقعة الأرض الصغيرة الزهيدة ، بينما هم يعمرون الأرض ويقومون بالخلافة فيها . ويرفعها إلى آفاق أرفع وأطهر من المستنقع الآسن بينما هم يطهرون المستنقع وينظفونه !

إن عمر المرء في هذه العاجلة محدود ، وعمره في الآجلة لا يعلم نهايته إلا الله . وإن متاع هذه الأرض في ذاته محدود . ومتاع الجنة لا تحده تصورات البشر . وإن مستوى النعيم في هذه الدنيا معروف ومستوى النعيم هناك يليق بالخلود ! فأين مجال من مجال ? وأين غاية من غاية ? حتى بحساب الربح والخسارة فيما يعهد البشر من الحساب ? !

ألا إن السباق إلى هناك . . ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{عَيۡنٗا يَشۡرَبُ بِهَا ٱلۡمُقَرَّبُونَ} (28)

قول تعالى ذكره : ومِزاج هذا الرحيق من تسنيم والتسنيم : التفعيل من قول القائل : سنمتهم العين تسنيما : إذا أجريتها عليهم من فوقهم ، فكان معناه في هذا الموضع : ومِزاجه من ماء ينزل عليهم من فوقهم فينحدر عليهم . وقد كان مجاهد والكلبيّ يقولان في ذلك كذلك .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : تَسْنِيمٍ قال : تسنيم : يعلو .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الكلبيّ ، في قوله : تَسْنِيمٍ قال : تسنيم ينصبّ عليهم من فوقهم ، وهو شراب المقرّبين .

وأما سائر أهل التأويل ، فقالوا : هو عين يمزج بها الرحيق لأصحاب اليمين ، وأما المقرّبون ، فيشربونها صِرْفا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مُرّة ، عن مسروق ، عن عبد الله في قوله : مِنْ تَسْنِيمٍ قال : عين في الجنة يشربها المقرّبون ، وتُمزج لأصحاب اليمين .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مُرّة ، عن مسروق ، عن عبد الله وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ قال : يشربه المقرّبون صِرفا ، ويمزج لأصحاب اليمين .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مالك بن الحرث ، عن مسروق ، وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ قال : عين في الجنة يشربها المقرّبون صِرفا ، وتُمزج لأصحاب اليمين .

قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرّة ، عن مسروق عَيْنا يَشْرَبُ بِها المُقَرّبُونَ قال : يشرب بها المقرّبون صِرفا ، وتمزج لأصحاب اليمين .

حدثني طلحة بن يحيى اليربوعيّ ، قال : حدثنا فضيل بن عياض ، عن منصور ، عن مالك بن الحرث ، في قوله : وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ قال : في الجنة عين يشرب منها المقرّبون صِرفا ، وتمزج لسائر أهل الجنة .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا أبو حمزة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قوله : وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْنا يَشْرَبُ بِها المُقَرّبُونَ صِرفا ، ويمزج فيها لمن دونهم .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مالك بن الحارث ، في قوله : وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ قال : التسنيم : عين في الجنة يشربها المقرّبون صرفا ، وتمزج لسائر أهل الجنة .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا أبو حمزة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قوله وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ قال : عين يشرب بها المقرّبون ، ويمزج فيها لمن دونهم .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْنا يَشْرَبُ بِها المُقَرّبُونَ عينا من ماء الجنة ، تُمزج به الخمر .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ قال : خفايا أخفاها الله لأهل الجنة .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا عمران بن عيينة ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح ، في قوله : وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ قال : هو أشرف شراب في الجنة ، هو للمقرّبين صِرف ، وهو لأهل الجنة مِزاج .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ شراب شريف ، عين في الجنة يشربها المقرّبون صرفا ، وتُمزج لسائر أهل الجنة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْنا يَشْرَبُ بِها المُقَرّبُونَ قال : بلغنا أنها عين تخرج من تحت العرش ، وهي مِزاج هذه الخمر : يعني مِزاج الرحيق .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : مِنْ تَسْنِيمٍ شراب اسمه تسنيم ، وهو من أشرف الشراب .

فتأويل الكلام : ومزاج الرحيق من عين تُسَنّم عليهم من فوقهم ، فتنصبّ عليهم يَشْرَبُ بِها المُقَرّبُونَ من الله صرفا ، وتمزج لأهل الجنة .

واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله : عَيْنا فقال بعض نحويّي البصرة : إن شئت جعلت نصبه على يُسْقون عينا ، وإن شئت جعلته مدحا ، فيُقطع من أوّل الكلام ، فكأنك تقول : أعني عينا .

وقال بعض نحويّي الكوفة : نصب العين على وجهين : أحدهما : أن يُنْوَى من تسنِيم عَيْن ، فإذا نوّنت نصبت ، كما قال : أوْ إطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيما ، وكما قال : ألَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفاتا أحْياءً . والوجه الاَخر : أن ينوى من ماء سُنّم عينا ، كقولك : رفع عينا يشرب بها . قال : وإن لم يكن التسنيم اسما للماء ، فالعين نكرة ، والتسنيم معرفة ، وإن كان اسما للماء ، فالعين نكرة فخرجت نصبا . وقال آخر من البصريين : مِنْ تَسْنِيمٍ معرفة ، ثم قال عَيْنا فجاءت نكرة ، فنصبتها صفة لها . وقال آخر نُصبت بمعنى : من ماء يَتَسَنّم عينا .

والصواب من القول في ذلك عندنا : أن التسنيم اسم معرفة ، والعين نكرة ، فنصبت لذلك إذ كانت صفة له . وإنما قلنا : ذلك هو الصواب لما قد قدّمنا من الرواية عن أهل التأويل ، أن التسنيم هو العين ، فكان معلوما بذلك أن العين إذ كانت منصوبة وهي نكرة ، أن التسنيم معرفة .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{عَيۡنٗا يَشۡرَبُ بِهَا ٱلۡمُقَرَّبُونَ} (28)

عينا يشرب بها المقربون فإنهم يشربونها صرفا لأنهم لم يشتغلوا بغير الله وتمزج لسائر أهل الجنة وانتصاب عينا على المدح أو الحال من تسنيم والكلام في الباء كما في يشرب بها عباد الله .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{عَيۡنٗا يَشۡرَبُ بِهَا ٱلۡمُقَرَّبُونَ} (28)

وباء { يشرب بها } إما سببية ، وعُدي فعل { يشرب } إلى ضمير العين بتضمين { يشرب } معنى : يمزج ، لقوله : { ومزاجه من تسنيم } أي يمزجون الرحيق بالتسنيم . وإمَّا باء الملابسة وفعل { يشرب } معدّى إلى مفعول محذوف وهو الرحيق ، أي يشربون الرحيق ملابسين للعين ، أي محيطين بها وجالسين حولها . أو الباء بمعنى ( مِن ) التبعيضية وقد عده الأصمعي والفارسي وابن قتيبة وابن مالك في معاني الباء ، وينسب إلى الكوفيين . واستشهدوا له بهذه الآية وليس ذلك ببيّن فإنّ الاستعمال العربي يكثر فيه تعدية فعل الشرب بالباء دون ( مِن ) ، ولعلهم أرادوا به معنى الملابسة ، أو كانت الباء زائدة كقول أبي ذؤيب يصف السحاب :

شَرْبنَ بماء البحر ثم ترفَّعت *** متَى لُجَج خُضر لَهُن نَئيجُ