وعلى مشهد النفوس الرهينة بما كسبت ، المقيدة بما فعلت ، يعلن إطلاق أصحاب اليمين من العقال ، وإرسالهم من القيد ، وتخويلهم حق سؤال المجرمين عما انتهى بهم إلى هذا المصير :
( إلا أصحاب اليمين ، في جنات يتساءلون عن المجرمين : ما سلككم في سقر ? قالوا : لم نك من المصلين ، ولم نك نطعم المسكين ، وكنا نخوض مع الخائضين ، وكنا نكذب بيوم الدين ، حتى أتانا اليقين ) . .
وانطلاق أصحاب اليمين وانفلاتهم من الرهن والقيد موكول إلى فضل الله الذي يبارك حسناتهم ويضاعفها . وإعلان ذلك في هذا الموقف وعرضه يلمس القلوب لمسة مؤثرة . يلمس قلوب المجرمين المكذبين ، وهم يرون أنفسهم في هذا الموقف المهين ، الذي يعترفون فيه فيطيلون الاعتراف ،
يقول تعالى ذكره : كلّ نفس مأمورة منهية بما عملت من معصية الله في الدنيا ، رهينة في جهنم إلاّ أصحَابَ اليَمِينِ فإنهم غير مرتهنين ، ولكنهم فِي جَنّاتٍ يَتَساءَلُونَ عن المجرمين . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ يقول : مأخوذة بعملها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إلاّ أصحَابَ اليَمِينِ قال : غَلِقَ الناس كلهم إلا أصحاب اليمين .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إلاّ أصحَابَ اليَمِينِ قال : لا يحاسبون .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : كلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إلاّ أصحَابَ اليَمِينِ : أصحابُ اليمين لا يرتهنون بذنوبهم ، ولكن يغفرها الله لهم وقرأ قول الله : إلاّ عِبَادَ اللّهِ المُخْلَصِينَ قال : لا يؤاخذهم الله بسيىء أعمالهم ، ولكن يغفرها الله لهم ، ويتجاوز عنهم كما وعدهم .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : كلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ قال : كل نفس سبقت له كلمة العذاب يرتهنه الله في النار ، لا يرتهن الله أحدا من أهل الجنة ، ألم تسمع أنه قال : كلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إلاّ أصحَابَ اليَمِينِ يقول : ليسوا رهينة فِي جَنّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله إلاّ أصحَابَ اليَمينِ قال : إن كان أحدهم سبقت له كلمة العذاب جُعلَ منزله في النار يكون فيها رهنا ، وليس يرتهن أحد من أهل الجنة هم في جنات يتساءلون .
واختلف أهل التأويل في أصحاب اليمين الذين ذكرهم الله في هذا الموضع ، فقال بعضهم : هم أطفال المسلمين . ذكر من قال ذلك :
حدثني واصل بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن الأعمش ، عن عثمان ، عن زاذان ، عن عليّ رضي الله عنه في هذه الاَية : كلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إلاّ أصحَابَ اليَمِينِ قال : هم الولدان .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن عثمان أبي اليقظان ، عن زاذان أبي عمر عن عليّ رضي الله عنه في قوله كلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إلاّ أصحَابَ اليَمِينِ قال : أطفال المسلمين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن عثمان بن عمير أبي اليقظان ، عن زاذان أبي عمر ، عن عليّ رضي الله عنه إلاّ أصحَابَ اليَمِين قال : أولاد المسلمين .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبي اليقظان ، عن زاذان ، عن عليّ رضي الله عنه إلاّ أصحَابَ اليَمِين قال : هم الولدان .
وقال آخرون : هم الملائكة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن شريك ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، قال : هم الملائكة .
وإنما قال من قال : أصحاب اليمين في هذا الموضع : هم الولدان وأطفال المسلمين ومن قال : هم الملائكة ، لأن هؤلاء لم يكن لهم ذنوب ، وقالوا : لم يكونوا ليسألوا المجرمين ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ إلا أنهم لم يقترفوا في الدنيا مآثم ، ولو كانوا اقترفوها وعرفوها لم يكونوا ليسألوهم عما سلكهم في سقر ، لأن كلّ من دخل من بني آدم ممن بلغ حدّ التكليف ، ولزِمه فرض الأمر والنهي ، قد علم أن أحدا لا يعاقب إلا على المعصية .
وقوله تعالى : { إلا أصحاب اليمين } استثناء ظاهر الانفصال ، وتقديره لكن أصحاب اليمين ، وذلك لأنهم لم يكتسبوا ما هم به مرتهنون ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : { أصحاب اليمين } في هذه الآية ، أطفال المسلمين ، وقال ابن عباس : هم الملائكة ، وقال الضحاك : هم الذين سبقت لهم من الله الحسنى ، وقال الحسن وابن كيسان : هم المسلمون المخلصون وليسوا بمرتهنين .
والاستثناء في قوله : { إلاّ أصحابَ اليمين } استثناء منقطع .
و { أصحاب اليمين } : هم أهل الخير جعلت علاماتهم في الحشر بجهات اليمين في مناولة الصحف وفي موقف الحساب وغير ذلك . فاليمين هو جهة أهل الكرامة في الاعتبار كجهة يمين العرش أو يمين مَكان القُدُس يوم الحشر لا يحيط بها وصفنا وجعلت علامة أهل الشر الشمال في تناول صحف أعمالهم وفي مواقفهم وغير ذلك .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم استثنى، فقال: {إلا أصحاب اليمين} الذي أعطوا كتبهم بأيمانهم ولا يرتهنون بذنوبهم في النار.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: كلّ نفس مأمورة منهية بما عملت من معصية الله في الدنيا، رهينة في جهنم" إلاّ أصحَابَ اليَمِينِ "فإنهم غير مرتهنين، ولكنهم فِي "جَنّاتٍ يَتَساءَلُونَ عن المجرمين"...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إلا أصحاب اليمين} {في جنات يتساءلون} أصحاب اليمين، هم الذين وصفهم الله تعالى في موضع آخر، في كتابه، وهو قوله عز وجل: {فأما من أوتي كتابه بيمينه} [الحاقة: 19، والانشقاق: 7] فاستثنى أصحاب اليمين من جملة المرتهنين لأنه ذكر الرّهون بلفظ يعبر بها عن الجمع، وهو قوله تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة} فاستقام استثناء الجماعة من تلك الجملة أي أصحاب اليمين قد سبقت منهم الأعمال التي يستوجبون بها الإطلاق من الحبس، لأن المجرمين صاروا مرهونين بإجرامهم، وأصحاب اليمين قد اكتسبوا الخيرات، وعملوا الصالحات.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والاستثناء منقطع، لان أصحاب اليمين ليسوا من الضلال الذين هم رهن بما كسبوه، وتقديره: لكن أصحاب اليمين.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وعلى مشهد النفوس الرهينة بما كسبت، المقيدة بما فعلت، يعلن إطلاق أصحاب اليمين من العقال، وإرسالهم من القيد، وتخويلهم حق سؤال المجرمين عما انتهى بهم إلى هذا المصير:
(إلا أصحاب اليمين، في جنات يتساءلون عن المجرمين: ما سلككم في سقر؟ قالوا: لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين، وكنا نكذب بيوم الدين، حتى أتانا اليقين)..
وانطلاق أصحاب اليمين وانفلاتهم من الرهن والقيد موكول إلى فضل الله الذي يبارك حسناتهم ويضاعفها. وإعلان ذلك في هذا الموقف وعرضه يلمس القلوب لمسة مؤثرة. يلمس قلوب المجرمين المكذبين، وهم يرون أنفسهم في هذا الموقف المهين، الذي يعترفون فيه فيطيلون الاعتراف.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و {أصحاب اليمين}: هم أهل الخير جعلت علاماتهم في الحشر بجهات اليمين في مناولة الصحف وفي موقف الحساب وغير ذلك. فاليمين هو جهة أهل الكرامة في الاعتبار كجهة يمين العرش أو يمين مَكان القُدُس يوم الحشر لا يحيط بها وصفنا وجعلت علامة أهل الشر الشمال في تناول صحف أعمالهم وفي مواقفهم وغير ذلك.