ومن هذه السبحة البعيدة الآفاق يعود إلى الأرض ، وما فيها من ماء ، جعله الله بقدر . قدر في نوعه ، وقدر في تصريفه ، وقدر في الانتفاع به :
مرج البحرين يلتقيان . بينهما برزخ لا يبغيان . فبأي آلاء ربكما تكذبان ? يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان . فبأي آلاء ربكما تكذبان ? وله الجواري المنشآت في البحر كالأعلام . فبأي آلاء ربكما تكذبان ? . .
والبحران المشار إليهما هما البحر المالح والبحر العذب ، ويشمل الأول البحار والمحيطات ، ويشمل الثاني الأنهار . ومرج البحرين أرسلهما وتركهما يلتقيان ، ولكنهما لا يبغيان ، ولا يتجاوز كل منهما حده المقدر ، ووظيفته المقسومة ،
وقوله : مَرَجَ البَحْرَيْن يَلْتَقِيانِ يقول تعالى ذكره : مرج ربّ المشرقين وربّ المغربين البحرين يلتقيان ، يعني بقوله : مَرَجَ : أرسل وخلى ، من قولهم : مرج فلان دابته : إذا خلاها وتركها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : مَرَجَ البَحْرَين يقول : أرسل .
واختلف أهل العلم في البحرين اللذين ذكرهما الله جلّ ثناؤه في هذه الاَية ، أيّ البحرين هما ؟ فقال بعضهم : هما بحران : أحدهما في السماء ، والاَخر في الأرض . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن ابن أبزى مَرَجَ البَحْرَيْن يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ قال : بحر في السماء ، وبحر في الأرض .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر عن سعيد ، في قوله : مَرَجَ البَحْرَيْن يَلْتَقِيانِ قال : بحر في السماء ، وبحر في الأرض .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ قال : بحر في السماء والأرض يلتقيان كلّ عام .
وقال آخرون : عنى بذلك بحر فارس وبحر الروم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن زياد مولى مصعب ، عن الحسن مَرَجَ البَحْرَيْن يَلْتَقِيانِ قال : بحر الروم ، وبحر فارس واليمن .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : مَرَجَ البَحْرَيْن يَلْتَقِيانِ فالبحران : بحر فارس ، وبحر الروم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ قال : بحر فارس وبحر الروم .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : عُنِيَ به بحر السماء ، وبحر الأرض ، وذلك أن الله قال يَخْرُجُ منْهُما اللّؤْلُؤُ وَالمَرْجانُ واللؤلؤ والمرجان إنما يخرج من أصداف بحر الأرض عن قَطْر ماء السماء ، فمعلوم أن ذلك بحر الأرض وبحر السماء .
{ مرج البحرين } معناه : أرسلهما إرسالاً غير منحاز بعضهما من بعض ، ومنه مرجت الدابة ، ومنه الأمر المريج ، أي المختلط الذي لم يتحصل منه شيء ، ومنه من { مارج من نار } [ الرحمن : 15 ] .
واختلف الناس في { البحرين } فقال الحسن وقتادة : بحر فارس وبحر الروم . وقال الحسن أيضاً : بحر القلزم واليمن وبحر الشام . وقال ابن عباس وابن جبير : هو بحر في السماء وبحر في الأرض . وقال ابن عباس أيضاً هو مطر السماء سماه بحراً وبحر الأرض . والظاهر عندي أن قوله تعالى : { البحرين } يريد بهما نوعي الماء العذب . والأجاج : أي خلطهما في الأرض وأرسلهما متداخلين في وضعهما في الأرض قريب بعضهما من بعض ولا بغي ، والعبرة في هذا التأويل منيرة ، وأنشد منذر بن سعيد : [ الطويل ]
وممزوجة الأمواه لا العذب غالب . . . على الملح طيباً لا ولا الملح يعذب{[10816]}
أما قوله : { يلتقيان } فعلى التأولين الأولين معناه : هما معدان للالتقاء ، وحقهما أن يلتقيا لولا البرزخ ، وعلى القول الثالث روي أنهما يلتقيان كل سنة مرة ، فمن ذهب إلى أنه بحر يجتمع في السماء فهو قول ضعيف وإنما يتوجه الالتقاء فيه . وفي القول الرابع بنزول المطر ، وفي القول الخامس بالأنهار في البحر وبالعيون قرب البحر .
خبر آخر عن { الرحمن } [ الرحمن : 1 ] قصد منه العبرة بخلق البحار والأنهار ، وذلك خلق عجيب دال على عظمة قدرة الله وعلمه وحكمته .
ومناسبة ذكره عقب ما قبله أنه لما ذُكر أنه سبحانه رب المشرقين ورب المغربين وكانت الأبحر والأنهار في جهات الأرض ناسب الانتقال إلى الاعتبار بخلقهما والامتنان بما أودعهما من منافع الناس .
والمرج : له معان كثيرة ، وأولاها في هذا الكلام إنه الإِرسال من قولهم : « مرج الدابة » إذا أرسلها ترعى في المَرج ، وهو الأرض الواسعة ذات الكلأ الذي لا مالك له ، أي : تركها تذهب حيث تشاء .
والمعنى : أرسل البحرين لا يحبس ماءهما عن الجري حاجز . وهذا تهيئة لقوله بعد { يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان } .
والمراد : أنه خَلَقهما ومرَجَهما ، لأنه ما مَرَجَهما إلا عقب أن خلقهما .
ويلتقيان : يتصلان بحيث يصب أحدهما في الآخر .
والبحر : الماء الغامر جزءاً عظيماً من الأرض يطلق على المالح والعذب .
والمراد تثنية نوعي البحر وهما البحر الملح والبحر العذب . كما في قوله تعالى : { وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج } [ فاطر : 12 ] والتعريف تعريف العهد الجنسي .
فالمقصود ما يعرفه العرب من هذين النوعين وهما نهر الفرات وبحر العجم المسمّى اليوم بالخليج الفارسي . والتقاؤهما انصباب ماء الفُرات في الخليج الفارسي . في شاطىء البَصرة ، والبلادُ التي على الشاطىء العربي من الخليج الفارسي تعرف عند العرب ببلاد البَحْريْن لذلك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.