ويمضي السياق يعرض مشهدا آخر من مشاهد الرسالة الواحدة والتكذيب المكرور :
ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين . فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . أفلا تتقون ? وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة ، وأترفناهم في الحياة الدنيا : ما هذا إلا بشر مثلكم ، يأكل مما تأكلون منه ، ويشرب مما تشربون . ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذن لخاسرون . أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون ? هيهات هيهات لما توعدون ! إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت و نحيا ، وما نحن بمبعوثين . إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا ، وما نحن له بمؤمنين . قال : رب انصرني بما كذبون . قال : عما قليل ليصبحن نادمين . فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء . فبعدا للقوم الظالمين . .
إن استعراض قصص الرسل في هذه السورة ليس للتقصي والتفصيل ؛ إنما هو لتقرير الكلمة الواحدة التي جاء بها الجميع ، والاستقبال الواحد الذي لقوه من الجميع . ومن ثم بدأ بذكر نوح - عليه السلام - ليحدد نقطة البدء ؛ وانتهى بموسى وعيسى ليحدد النقطة الأخيرة قبل الرسالة الأخيرة . ولم يذكر الأسماء في وسط السلسلة الطويلة ، كي يدل على تشابه حلقاتها بين البدء والنهاية . إنما ذكر الكلمة الواحدة في كل حلقة والاستقبال الواحد ، لأن هذا هو المقصود .
( ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ) . . لم يحدد من هم . وهم على الأرجح عاد قوم هود . .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ * فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتّقُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ثم أحدثنا من بعد مَهْلِك قوم نوح قرنا آخرين فأوجدناهم . فأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ داعيا لهم ، إنِ اعْبُدُوا اللّهَ يا قوم ، وأطيعوه دون الاَلهة والأصنام ، فإن العبادة لا تنبغي إلا له . ما لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ يقول : ما لكم من معبود يصلح أن تعبدوا سواه . أفَلا تَتّقُونَ : أفلا تخافون عقاب الله بعبادتكم شيئا دونه ، وهو الإله الذي لا إله لكم سواه .
تعقيب قصة نوح وقومه بقصة رسول آخر ، أي أخرى ، وما بعدها من القصص يراد منه أن ما أصاب قوم نوح على تكذيبهم له لم يكن صدفة ولكنه سنة الله في المكذبين لرسله ولذلك لم يعيَّن القرن ولا القرون بأسمائهم .
والقرن : الأمة . والأظهر أن المراد به هنا ثمود لأنه الذي يناسبه قوله في آخر القصة { فأخذتهم الصيحة بالحق } [ المؤمنون : 41 ] ، لأن ثمود أُهلكوا بالصاعقة ولقوله { قال عمَّا قليلٍ لَيُصْبِحُنّ نادمين } [ المؤمنون : 40 ] مع قوله في سورة الحجر ( 83 ) { فأخذتهم الصيحَةُ مصبحين } فكان هلاكهم في الصباح . ولعل تخصيصهم بالذكر هنا دون عاد خلافاً لما تكرر في غير هذه الآية لأن العبرة بحالهم أظهر لبقاء آثار ديارهم بالحِجر كما قال تعالى : { وإنكم لَتَمُرّونَ عليهم مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أفلا تعقلون } [ الصافات : 137 ، 138 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ثم أنشأنا من بعدهم} يعني: من بعد قوم نوح {قرنا آخرين}، وهم قوم هود، عليه السلام.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ثم أحدثنا من بعد مَهْلِك قوم نوح قرنا آخرين فأوجدناهم. "فأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ "داعيا لهم، "إنِ اعْبُدُوا اللّهَ" يا قوم، وأطيعوه دون الآلهة والأصنام، فإن العبادة لا تنبغي إلا له.
"ما لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ" يقول: ما لكم من معبود يصلح أن تعبدوا سواه.
"أفَلا تَتّقُونَ": أفلا تخافون عقاب الله بعبادتكم شيئا دونه، وهو الإله الذي لا إله لكم سواه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"ثم أنشانا" واخترعنا، من بعد إهلاك قوم نوح بالطوفان "قوما آخرين" والإنشاء والاختراع واحد، وكل ما يفعل الله تعالى فهو إنشاء واختراع. وقد يفعل الله تعالى الفعل عن سبب بحسب ما تقتضيه المصلحة.
والقرن: أهل العصر لمقارنة بعضهم لبعض، ومنه قرن الكبش لمقارنته القرن الآخر، ومنه القرينة، وهي الدلالة التي تقارن الكلام.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{قَرْناً ءَاخَرِينَ} هم عاد قوم هود: عن ابن عباس رضي الله عنهما. وتشهد له حكاية الله تعالى قول هود: {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69] ومجيء قصة هود على أثر قصة نوح في سورة الأعراف وسورة هود والشعراء.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما بين سبحانه وتعالى تكذيبهم وما عذبهم به، وكان القياس موجباً لأن من يأتي بعدهم يخشى مثل مصرعهم، فيسلك غير سبيلهم، ويقول غير قيلهم، بين أنه لم تنفعهم العبرة، فارتكبوا مثل أحوالهم، وزادوا على أقوالهم وأفعالهم... وأيضاً فإنه لما كان المقصود -مع التهديد والدلالة على القدرة والاختيار- الدلالة على تخصيص المؤمنين بالفلاح والبقاء بعد الأعداء، وكان إهلاك المترفين أدل على ذلك، اقتصر على ذكرهم وأبهمهم ليصح تنزيل قصتهم على كل من ادعى فيهم الإتراف من الكفرة، ويترجح إرادة عاد لما أعطوا مع ذلك من قوة الأبدان وعظم الأجسام، وبذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما، وإرادة ثمود لما في الشعراء والقمر مما يشابه بعض قولهم هنا، وللتعبير عن عذابهم بالصيحة ولموافقتهم لقوم نوح في تعليل ردهم بكونه بشراً، وطوى الإخبار عمن بعدهم بغير التكذيب والإهلاك لعدم الحاجة إلى ذكر شيء غيره، فقال: {ثم أنشأنا} أي أحدثنا وأحيينا وربينا بما لنا من العظمة. ولما لم يستغرقوا زمان البعد، أتى بالجار فقال: {من بعدهم قرناً} أي أمة وجيلاً.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويمضي السياق يعرض مشهدا آخر من مشاهد الرسالة الواحدة والتكذيب المكرور:
(ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين).. لم يحدد من هم. وهم على الأرجح عاد قوم هود.
ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين. فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره. أفلا تتقون؟...
إن استعراض قصص الرسل في هذه السورة ليس للتقصي والتفصيل؛ إنما هو لتقرير الكلمة الواحدة التي جاء بها الجميع، والاستقبال الواحد الذي لقوه من الجميع. ومن ثم بدأ بذكر نوح -عليه السلام- ليحدد نقطة البدء؛ وانتهى بموسى وعيسى ليحدد النقطة الأخيرة قبل الرسالة الأخيرة. ولم يذكر الأسماء في وسط السلسلة الطويلة، كي يدل على تشابه حلقاتها بين البدء والنهاية. إنما ذكر الكلمة الواحدة في كل حلقة والاستقبال الواحد، لأن هذا هو المقصود.
(ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين).. لم يحدد من هم. وهم على الأرجح عاد قوم هود..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تعقيب قصة نوح وقومه بقصة رسول آخر، أي أخرى، وما بعدها من القصص يراد منه أن ما أصاب قوم نوح على تكذيبهم له لم يكن صدفة ولكنه سنة الله في المكذبين لرسله ولذلك لم يعيَّن القرن ولا القرون بأسمائهم...
والقرن: الأمة. والأظهر أن المراد به هنا ثمود لأنه الذي يناسبه قوله في آخر القصة {فأخذتهم الصيحة بالحق} [المؤمنون: 41]، لأن ثمود أُهلكوا بالصاعقة ولقوله {قال عمَّا قليلٍ لَيُصْبِحُنّ نادمين} [المؤمنون: 40] مع قوله في سورة الحجر (83) {فأخذتهم الصيحَةُ مصبحين} فكان هلاكهم في الصباح. ولعل تخصيصهم بالذكر هنا دون عاد خلافاً لما تكرر في غير هذه الآية لأن العبرة بحالهم أظهر لبقاء آثار ديارهم بالحِجر كما قال تعالى: {وإنكم لَتَمُرّونَ عليهم مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أفلا تعقلون} [الصافات: 137، 138].
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
العطف ب" ثم "لتطاول الزمن بين نوح، وبين من جاءوا بعد، والقرن جماعة من الناس، وذكرهم سبحانه وتعالى بالمفرد ولم يذكرهم بالجمع، لتشابه أحوالهم في نوع إنكارهم، وما يدعون إليه رسلهم، فكانوا كقرن واحد، وليسوا قرونا متعددين، وكلمة {آخرين}، أي ليس هم قوم نوح، وإن كانوا على شاكلتهم، وكفروا كفرهم، وضلوا ضلالهم. ولم يذكر سبحانه من هم هذا القرن، ولا شك أنه جاء بعد نوح عاد وثمود ومدين، وأرسل لهم رسلا آخرين دعوهم إلى ما دعا إليه نوح عليه السلام، من توحيد، وإيمان بالبعث والنشور، وأن الثواب للمؤمنين، والعقاب للظالمين، ولم يذكر الله تعالى بالتعيين هؤلاء الأقوام، وإن لم يقصص القرآن قصصهم فقد قال تعالى: {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ (78)} [غافر].