وبعد هذا الحديث الزاخر بالخيرات والبركات عن السابقين . . . جاء الحديث عن أصحاب اليمين وعما أعده الله - تعالى - لهم من ثواب فقال - سبحانه - : { وَأَصْحَابُ اليمين . . . } .
قال الآلوسى : قوله - تعالى - { وَأَصْحَابُ اليمين . . . } شروع فى بيان تفاصيل شئونهم ، بعد بيان شئون السابقين .
وأصحاب : مبتدأ وقوله : { مَآ أَصْحَابُ اليمين } جملة استفهامية مشعرة بتفخيمهم ، والتعجب من حالهم ، وهى خبر المبتدأ . . أو معترضة ، والخبر قوله : { فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ . . } .
والسدر : شجر النبق ، واحده سدرة ، ومخضود . أى : منزوع الشوك ، يقال : خضد فلان الشجر ، إذا قطع الشوك الذى به فهو خضيد ومخضود ، أو مخضود بمعنى ملىء بالثمر حتى تثنت أغصانه ، من خضدت الغصن ، إذا ثنيته وأملته إلى جهة أخرى .
أى : وأصحاب اليمين ، المقول فيهم ما أصحاب اليمين على سبل التفخيم ، مستقرون يوم القيامة فى حدائق ملبئة بالشجر الذى خلا من الشوك وامتلأ بالثمار الطيبة ، التى تثنت أغصانها لكثرتها . .
قال القرطبى : وذكر ابن المبارك قال : حدثنا صفوان عن سليم بن عامر قال : " كان أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - يقولون : إنه لينفعنا الأعراب ومسائلهم . قال : أقبل أعرابى يوما فقال : يا رسول الله ، لقد ذكر الله فى القرآن : شجرة مؤذية ، وماكنت أرى فى الجنة شجرة تؤذى صاحبها ؟
فقال - صلى الله عليه وسلم - : وما هى ؟ قال : السدر ، فإن له شوكا مؤذيا ، فقال : - صلى الله عليه وسلم - : ألم يقل الله - تعالى - { فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ } . خضد الله - تعالى - شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة " .
لما ذكر تعالى مآل السابقين - وهم المقربون - عطف عليهم بذكر أصحاب اليمين - وهم الأبرار - كما قال ميمون بن مِهْرَان : أصحاب اليمين منزلة دون المقربين ، فقال : { وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ } أي : أي شيء أصحاب اليمين ؟ وما حالهم ؟ وكيف مآلهم{[28052]} ؟ ثم فسر ذلك فقال : { فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مّنضُودٍ * وَظِلّ مّمْدُودٍ * وَمَآءٍ مّسْكُوبٍ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحَابُ اليَمِينِ وهم الذين يُؤخذ بهم يوم القيامة ذات اليمين ، الذي أُعطوا كتبهم بأيمانهم يا محمد ما أصحَابُ اليَمِينَ أيّ شيء هم وما لهم ، وماذا أعدّ لهم من الخير ، وقيل : إنهم أطفال المؤمنين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن معمر ، قال : حدثنا أبو هشام المخزوميّ ، قال : حدثنا عبد الواحد ، قال : حدثنا الأعمش ، قال : حدثنا عثمان بن قيس ، أنه سمع زاذان أبا عمرو يقول : سمعت عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقول : وأصحَابُ اليَمِينِ ما أصحَابُ اليَمِينِ قال : أصحاب اليميين : أطفال المؤمنين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : وأصحَابُ اليَمِينِ ما أصحَابُ اليَمِينِ : أي ماذا لهم ، وماذا أعدّ لهم ، ثم ابتدأ الخبر عما ذا أعدّ لهم في الجنة ، وكيف يكون حالهم إذا هم دخلوها ؟ فقال : هم فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ يعني : في ثمر سدر موقر حملاً قد ذهب شوكه .
وقد اختلف في تأويله أهل التأويل ، فقال بعضهم : يعني بالمخضود : الذي قد خُضد من الشوك ، فلا شوك فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : سِدْرٍ مَخْضُود قال : خضده وقره من الحمل ، ويقال : خُضِد حتى ذهب شوكه فلا شوك فيه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ قال : زعم محمد بن عكرِمة قال : لا شوك فيه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن عكرمة ، في قوله : فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ قال : لا شوك فيه .
حدثنا ابن بشار ، حدثنا هوذة بن خليفة ، قال : حدثنا عوف ، عن قسامة بن زُهَير ، في قوله : فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ قال : خُضِد من الشوك ، فلا شوك فيه .
حدثنا أبو حُمَيد الحمصي أحمد بن المغيرة ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا عمرو بن عمرو بن عبد الله الأحموسيّ ، عن السفر بن نُسَير في قول الله عزّ وجلّ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ قال : خُضِد شوكه ، فلا شوك فيه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فِي سِدْرٍ مَخُضُودٍ قال : كنا نحدّث أنه المُوقَر الذي لا شوك فيه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا سليمان ، قال : حدثنا قتادة ، في قوله : فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ قال : ليس فيه شوك .
حدثنا ابن حُميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص في سِدْوٍ مَخْضُودٍ قال : لا شوك له .
حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عكرِمة فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ قال : لا شوك فيه .
وحدثني به ابن حُمَيد مرّة أخرى ، عن مهران بهذا الإسناد ، عن عكرِمة ، فقال : لا شوك له ، وهو المُوقَر .
وقال آخرون : بل عُنِي به أنه المُوقَر حَمْلاً . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مَخْضُودٍ قال : يقولون هذا الموقَرُ حَمْلاً .
حدثني محمد بن سنان القزّاز ، قال : حدثنا أبو حُذَيفة ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ قال : الموقَر .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ قال : الموقَر .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : سِدْرٍ مَخْضُودٍ يقول : مُوقَر .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ قال : ثمرها أعظم من القِلال .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين} يقول: ما لأصحاب اليمين من الخير.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم" وأصحَابُ اليَمِينِ "وهم الذين يُؤخذ بهم يوم القيامة ذات اليمين، الذين أُعطوا كتبهم بأيمانهم يا محمد "ما أصحَابُ اليَمِينَ" أيّ شيء هم وما لهم، وماذا أعدّ لهم من الخير
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أصحاب اليمين هم المؤمنون على ما ذكرنا.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
ثم ذكر أصحاب اليمين وعجَّب من شأنهم فقال جل ذكره: {وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين}.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
والوصف أقل روعة من الوصف الأول. والحكمة في ذلك ظاهرة متسقة مع طبائع الأشياء. فالمؤمنون في مجال العمل متفاوتون، فمنهم السابق المجلي والمستغرق المتفاني، ومنهم المقتصد المتقي، بل ومنهم المقصر بعض التقصير مع حسن النية. فاقتضت حكمة التنزيل أن يعلم الناس أن لكل منهم منازل فيها رضاء الله وعطفه مع التفاوت حسب سيرهم في مجال العمل. وتعبير {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَولِينَ 39 وثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ 40} في صدد أصحاب اليمين ينطوي على ما هو المتبادر على تقرير كون أصحاب هذه المرتبة هو السواد الأعظم من المؤمنين في جميع الأوقات. وهو المتسق مع طبائع الأمور. وفي الآيات تشجيع وتطمين لأصحاب هذه المرتبة. فالله سبحانه يقبل من عباده المؤمنين عملهم الصالح مهما كان مقداره. ويرضى عنه ويثيب أصحابه.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
هذا هو الصنف الثاني من الناس يوم القيامة، هل تعرف هؤلاء الذين آمنوا بالله، والتزموا بخطه المستقيم في هدوءِ الإيمان وسلامة العمل، دون أن يبلغوا السبق في الدرجة العليا؟ وهل تعرف جزاءهم عند الله، ومكانهم في جنة الرضوان عنده؟...