ثم عجَّب - سبحانه - نبيه صلى الله عليه وسلم من حال هذا الشقي وأمثاله ، فقال : { أَرَأَيْتَ الذي ينهى . عَبْداً إِذَا صلى } . فالاستفهام فى قوله - تعالى - : { أَرَأَيْتَ . . . } للتعجيب من جهالة هذا الطاغى ، وانطماس بصيرته ، حيث نهى عن الخير ، وأمر بالشر ، والمراد بالعبد : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتنكيره للتفخيم والتعظيم .
أى : أرأيت وعلمت - أيها الرسول الكريم - حالا أعجب وأشنع من حال هذا الطاغى الأحمق ، الذى ينهاك عن إقامة العبادة لربك الذى خلقك وخلقه .
ثم قال تعالى : { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى } نزلت في أبي جهل ، لعنه الله ، توعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصلاة عند البيت ، فوعظه الله تعالى بالتي هي أحسن أولا فقال : { أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى } أي : فما ظنك إن كان هذا الذي تنهاه على الطريق المستقيمة في فعله ، أو { أَمَرَ بِالتَّقْوَى } بقوله ، وأنت تزجره وتتوعده على صلاته ؛ ولهذا قال : { أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى } أي : أما علم هذا الناهي لهذا المهتدي أن الله يراه ويسمع كلامه ، وسيجازيه على فعله أتم الجزاء .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَرَأَيْتَ الّذِي يَنْهَىَ * عَبْداً إِذَا صَلّىَ } .
ذُكر أن هذه الاَية وما بعدها نزلت في أبي جهل بن هشام ، وذلك أنه قال فيما بلغنا : لئن رأيت محمدا يصلي ، لأطأنّ رقبته ، وكان فيما ذُكر قد نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي ، فقال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : أرأيت يا محمد أبا جهل الذي يَنْهاك أن تصليَ عند المَقام ، وهو مُعرض عن الحقّ ، مكذّب به ، يُعجّب جلّ ثناؤه نبيه والمؤمنين من جهل أبي جهل ، وجراءته على ربه ، في نهيه محمدا عن الصلاة لربه ، وهو مع أياديه عنده مكذّب به . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : { أرأَيْتَ الّذِي يَنْهَى عَبْدا إذَا صَلّى } قال : أبو جهل ، يَنْهَى محمدا صلى الله عليه وسلم إذا صلى .
حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة { أرأيْتَ الّذِي يَنْهَى عَبْدا إذَا صَلّى } نزلت في عدوّ الله أبي جهل ، وذلك لأنه قال : لئن رأيت محمدا يصلّي لأطأنْ على عنقه ، فأنزل الله ما تسمعون .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قول الله : { أرأَيْتَ الّذِي يَنْهَى عَبْدا إذَا صَلّى } قال : قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا صلى الله عليه وسلم يصلّي ، لأطأنّ على عنقه ، قال : وكان يقال : «لكل أمة فرعون ، وفرعون هذه الأمة أبو جهل » .
حدثنا إسحاق بن شاهين الواسطيّ ، قال : حدثنا خالد بن عبد الله ، عن داود ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي ، فجاءه أبو جهل ، فنهاه أن يُصَلّيَ ، فأنزل الله : { أرأَيْتَ الّذِي يَنْهَى عَبْدا إذَا صَلّى } . . . إلى قوله : { كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ } .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ذُكر أن هذه الآية وما بعدها نزلت في أبي جهل بن هشام ، وذلك أنه قال فيما بلغنا : لئن رأيت محمدا يصلي ، لأطأنّ رقبته ، وكان فيما ذُكر قد نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي ، فقال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : أرأيت يا محمد أبا جهل الذي يَنْهاك أن تصليَ عند المَقام ، وهو مُعرض عن الحقّ ، مكذّب به ، يُعجّب، جلّ ثناؤه، نبيه والمؤمنين من جهل أبي جهل ، وجراءته على ربه ، في نهيه محمدا عن الصلاة لربه ، وهو مع أياديه عنده مكذّب به ....
واعلم أن ظاهر الآية أن المراد في هذه الآية هو الإنسان المتقدم ذكره ، فلذلك قالوا : إنه ورد في أبي جهل ، وذكروا ما كان منه من التوعد لمحمد عليه الصلاة والسلام حين رآه يصلي ، ولا يمتنع أن يكون نزولها في أبي جهل ، ثم يعم في الكل ، لكن ما بعده يقتضي أنه في رجل بعينه...
قال : { ينهى عبدا } ولم يقل : ينهاك ، وفيه فوائد؛
( أحدها ) : أن التنكير في عبدا يدل على كونه كاملا في العبودية ، كأنه يقول : إنه عبد لا يفي العالم بشرح بيانه وصفة إخلاصه في عبوديته ... فكأنه تعالى قال : ينهى أشد الخلق عبودية عن العبودية وذلك عين الجهل والحمق.
( وثانيها ) : أن هذا أبلغ في الذم لأن المعنى أن هذا دأبه وعادته فينهى كل من يرى.
( وثالثها ) : أن هذا تخويف لكل من نهى عن الصلاة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان أفحش ما يكون صد العبد عن خدمة سيده ، قال معبراً بالعبودية منكراً للمبالغة في تقبيح النهي والدلالة على كمال العبودية : { عبداً } أي من العبيد { إذا صلّى } أي خدم سيده الذي لا يقدر أحد أن ينكر سيادته بإيقاع الصلاة التي هي وصلته به ، وهي أعظم أنواع العبادة ...
السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني 977 هـ :
وقيل : إن هذا الوعيد يلزم كل من ينهى عن الصلاة عن طاعة الله تعالى ....
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
والصلاة المذكورة في الآية مطلقة ؛ لأن المراد بنهيه - لعنه الله - النهي عن الصلاة صراحاً بلسان ، وضمناً كهذه القصة ، فالنهي بمعنى مطلق المنع ...
{ ينهى عبداً إذا صلى } بصيغة التجدد ، ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وعدل عن التعبير عنه بضمير الخطاب لأن التعجيب من نفس النهي عن الصلاة بقطع النظر عن خصوصية المصلّي . فشموله لنهيه عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أوقع ، وصيغة المضارع في قوله : { ينهى } لاستحضار الحالة العجيبة وإلا فإن نهيه قد مضى .
والمنهي عنه محذوف يغني عنه تعليق الظرف بفعل { ينهى } أي نهاه عن صلاته .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.