ثم ترتفع نبرة العتاب حتى لتبلغ حد الردع والزجر : ( كلا ! ) . . لا يكن ذلك أبدا . . وهو خطاب يسترعي النظر في هذا المقام .
ثم يبين حقيقة هذه الدعوة وكرامتها وعظمتها ورفعتها ، واستغناءها عن كل أحد . وعن كل سند وعنايتها فقط بمن يريدها لذاتها ، كائنا ما كان وضعه ووزنه في موازين الدنيا : ( إنها تذكرة . فمن شاء ذكره . في صحف مكرمة . مرفوعة مطهرة . بأيدي سفرة . كرام بررة . ) . . فهي كريمة في كل اعتبار . كريمة في صحفها ، المرفوعة المطهرة الموكل بها السفراء من الملأ الأعلى ينقلونها إلى المختارين في الأرض ليبلغوها . وهم كذلك كرام بررة . . فهي كريمة طاهرة في كل ما يتعلق بها ، وما يمسها من قريب أو من بعيد . وهي عزيزة لا يتصدى بها للمعرضين الذين يظهرون الاستغناء عنها ؛ فهي فقط لمن يعرف كرامتها ويطلب التطهر بها . .
وقوله : ( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ) قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وابن زيد : هي الملائكة . وقال وهب بن منبه : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال قتادة : هم القراء . وقال ابن جريج ، عن ابن عباس : السفرة بالنبطية : القراء .
وقال ابن جرير : الصحيح أن السفرة الملائكة ، والسفرة يعني بين الله وبين خلقه ، ومنه يقال : السفير : الذي يسعى بين الناس في الصلح والخير ، كما قال الشاعر :
ومَا أدَعُ السّفَارَة بَين قَومي *** وَما أمْشي بغش إن مَشَيتُ{[29696]}
وقال البخاري : سَفَرةٌ : الملائكة . سَفرت : أصلحت بينهم . وجعلت الملائكةُ إذا نزلت بوَحْي الله وتأديته كالسفير الذي يصلح بين القوم{[29697]} .
وقوله : بِأيْدِي سَفَرةٍ يقول : الصحف المكرّمة بأيدي سَفَرة ، جمع سافر .
واختلف أهل التأويل فيهم ما هم ؟ فقال بعضهم : هم كَتَبة . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : بِأيْدِي سَفَرَةٍ يقول : كَتَبة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : بِأيْدِي سَفَرةٍ قال : الكَتَبة .
وقال آخرون : هم القُرّاء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرّمَةٍ مَرْفُوَعَةٍ مُطَهّرَةٍ بِأيْدِي سَفَرةٍ قال : هم القرّاء .
وقال آخرون : هم الملائكة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس بِأيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ يعني الملائكة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : بِأيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ قال : السّفَرة : الذين يُحْصون الأعمال .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : قول من قال : هم الملائكة الذين يَسْفِرون بين الله ورسله بالوحي . وسفير القوم : الذي يسعى بينهم بالصلح ، يقال : سَفَرت بين القوم : إذا أصلحت بينهم ومنه قول الشاعر :
وَما أدَعُ السّفارَةَ بَينَ قَوْمي *** وَما أمْشِي بِغِشَ إنْ مَشَيْتُ
وإذا وُجّه التأويل إلى ما قلنا ، احتمل الوجه الذي قاله القائلون هم الكَتَبة ، والذي قاله القائلون هم القُرّاء ، لأن الملائكة هي التي تقرأ الكتب ، وتَسْفِر بين الله وبين رسله .
واختلف الناس في «السفرة » ، فقال ابن عباس : هم الملائكة لأنهم كتبة يقال : سفرت أي كتبت ، ومنه السفر{[11623]} ، وقال ابن عباس أيضاً : الملائكة سفرة لأنهم يسفرون بين الله تعالى وبين أنبيائه ، وقال قتادة : هم القراء وواحد السفرة سافر ، وقال وهب بن منبه : هم الصحابة لأنهم بعضهم يسفر إلى بعض في الخبر والتعليم ، والقول الأول أرجح ، ومن اللفظة قول الشاعر : [ الوافر ]
وما أدع السفارة بين قومي . . . وما أسعى بغش إن مشيت{[11624]}
و «الصحف » على هذا صحف عند الملائكة أو اللوح ، وعلى القول الآخر هي المصاحف .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.