{ خالدين فيها } خلودا أبديا ، حالة كونهم { لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } أى : لا يطلبون تحولا أو انتقالا منها إلى مكان آخر ، لكونها أطيب المنازل وأعلاها .
وفى قوله - تعالى - : { لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } لفتة دقيقة عميقة للإِجابة على ما يعترى النفس البشرية من حب للانتقال والتحول من مكان إلى مكان ، ومن حال إلى حال .
فكأنه - سبحانه - يقول : إن ما جبلت عليه النفوس فى الدنيا من حب للتحول والتنقل . قد زال وانتهى بحلولها فى الآخرة فى الجنة ، فالنفس الإِنسانية عندما تستقر فى الجنة - ولا سيما جنة الفردوس - لا تريد تحولا أو انتقالا عنها ، لأنها المكان الذى لا تشتاق النفوس إلى سواه ، لأنها تجد فيه ما تشتهيه وما تبتغيه ، نسأل الله - تعالى - أن يرزقنا جميعا جنات الفردوس .
ثم هذه اللفتة الدقيقة العميقة إلى طبيعة النفس البشرية وإحساسها بالمتاع في قوله ( لا يبغون عنها حولا ) . . وهي تحتاج منا إلى وقفة بإزاء ما فيها من عمق ودقة . .
إنهم خالدون في جنات الفردوس . . ولكن النفس البشرية حول قلب . تمل الإطراد ، وتسأم البقاء على حال واحدة أو مكان واحد ؛ وإذا اطمأنت على النعيم من التغير والنفاد فقدت حرصها عليه . وإذا مضى على وتيرة واحدة فقد تسأمه . بل قد تنتهي إلى الضيق به ؛ والرغبة في الفرار منه !
هذه هي الفطرة التي فطر عليها الإنسان لحكمة عليا تناسب خلافته للأرض ، ودوره في هذه الخلافة . فهذا الدور يقتضي تحوير الحياة وتطويرها حتى تبلغ الكمال المقدر لها في علم الله . ومن ثم ركز في الفطرة البشرية حب التغيير والتبديل ؛ وحب الكشف والاستطلاع ، وحب الانتقال من حال إلى حال ، ومن مكان إلى مكان ، ومن مشهد إلى مشهد ، ومن نظام إلى نظام . . وذلك كي يندفع الإنسان في طريقه ، يغير في واقع الحياة ، ويكشف عن مجاهل الأرض ، ويبدع في نظم المجتمع وفي أشكال المادة . . ومن وراء التغير والكشف والإبداع ترتقي الحياة وتتطور ؛ وتصل شيئا فشيئا إلى الكمال المقدر لها في علم الله .
نعم إنه مركوز في الفطرة كذلك ألفة القديم ، والتعلق بالمألوف ، والمحافظة على العادة . ولكن ذلك كله بدرجة لا تشل عملية التطور والإبداع ، ولا تعوق الحياة عن الرقي والارتفاع . ولا تنتهي بالأفكار والأوضاع إلى الجمود والركود . إنما هي المقاومة التي تضمن التوازن مع الاندفاع . وكلما اختل التوازن فغلب الجمود في بيئة من البيئات انبعثت الثورة التي تدفع بالعجلة دفعة قوية قد تتجاوز حدود الاعتدال . وخير الفترات هي فترات التعادل بين قوتي الدفع والجذب ، والتوازن بين الدوافع والضوابط في جهاز الحياة .
فأما إذا غلب الركود والجمود . فهو الإعلان بانحسار دوافع الحياة ، وهو الإيذان بالموت في حياة الأفراد والجماعات سواء .
هذه هي الفطرة المناسبة لخلافة الإنسان في الأرض . فأما في الجنة وهي دار الكمال المطلق . . فإن هذه الفطرة لا تقابلها وظيفة . ولو بقيت النفس بفطرة الأرض ، وعاشت في هذا النعيم المقيم الذي لا تخشى عليه النفاد ، ولا تتحول هي عنه ، ولا يتحول هو عنها لانقلب النعيم جحيما لهذه النفس بعد فترة من الزمان ؛ ولأصبحت الجنة سجنا لنزلائها يودون لو يغادرونه فترة ، ولو إلى الجحيم ، ليرضوا نزعة التغيير والتبديل !
ولكن باريء هذه النفس - وهو أعلم بها - يحول رغباتها ، فلا تعود تبغى التحول عن الجنة ، وذلك في مقابل الخلود الذي لا تحول له ولا نفاد !
وقوله : { خَالِدِينَ فِيهَا } أي : مقيمين ساكنين{[18581]} فيها ، لا يظعنون عنها أبدًا ، { لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا } أي : لا يختارون{[18582]} غيرها ، ولا يحبون سواها ، كما قال الشاعر{[18583]} :
فَحَّلْت سُوَيدا القَلْب لا أنَا بَاغيًا *** سواها ولا عَنْ حُبّها أتَحوّلُ
وفي قوله : { لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا } تنبيه على رغبتهم فيها ، وحبهم لها ، مع أنه قد يتوهم{[18584]} فيمن هو مقيم في المكان دائمًا أنه يسأمه أو يمله ، فأخبر أنهم مع هذا الدوام والخلود السرمدي ، لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولا ولا انتقالا ولا ظعنًا{[18585]} ولا رحلة{[18586]} ولا بدلا{[18587]}
وقوله : خالِدِينَ يقول : لابثين فيها أبدا لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً يقول : لا يريدون عنها تحوّلاً ، وهو مصدر تحوّلت ، أخرج إلى أصله ، كما يقال : صغُر يصغُر صِغَرا ، وعاج يعوج عِوَجا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً قال : متحوّلاً .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : سمعت مخلد بن الحسين يقول : وسئل عنها ، قال : سمعت بعض أصحاب أنس يقول : قال : «يقول أوّلهم دخولاً إنما أدخلني الله أوّلهم ، لأنه ليس أحد أفضل مني ، ويقول آخرهم دخولاً : إنما أخرني الله ، لأنه ليس أحد أعطاه الله مثل الذي أعطاني » .
و «الحول » بمعنى التحول ، وقال مجاهد : متحولاً ، ومنه قول الشاعر : [ مجزوء الرجز ]
لكل دولة أجل *** ثم يتاح لها حول{[7909]} . . . وكأنه اسم جمع ، وكأن واحده حوالة ، وفي هذا نظر ، وقال الزجاج عن قوم : هي بمعنى الحيلة في التنقل .
قوله : { لا يبغون عنها حولاً } أي ليس بعدما حوته تلك الجنات من ضروب اللّذات والتمتع ما تتطلع النفوس إليه فتود مفارقة ما هي فيه إلى ما هو خير منه ، أي هم يجدون فيها كل ما يخامر أنفسهم من المشتهى .
والحِوَل : مصدر بوزن العِوج والصِغر . وحرف العلة يصحح في هذه الصيغة لكن الغالب فيما كان على هذه الزنة مصدرا التصحيحُ مثل : الحِول ، وفيما كان منها جمعاً الإعلال نحو : الحِيل جمع حِيلة . وهو من ذوات الواو مشتق من التحول .