قوله - تعالى - : { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً . فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً } بيان للطرق والمسالك التى سلكها نوح مع قومه ، وهو يدعوهم إلى أخلاص العبادة لله - تعالى - بحرص شديد ومواظبة تامة . . وموقف قومه من دعوته لهم .
والمقصود بهذا الخبر لازم معناه ، وهو الشكاية إلى ربه ، والتمهيد لطلب النصر منه - تعالى - عليهم ، لأنه - سبحانه - لا يخفى عليه أن نوحا - عليه السلام - لم يقصر فى تبليغ رسالته .
أى : قال نوح متضرعا إلى ربه : يا رب إنك تعلم أننى لم أقصر فى دعوة قومى إلى عبادتك ، تارة بالليل وتارة بالنهار ، من غير فتور ولا توان .
{ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي } لهم إلى عبادتك وطاعتك { إِلاَّ فِرَاراً } أى : إلا تباعدا من الإِيمان وإعراضا عنه . والفرار : الزَّوَغَان والهرب . يقال : فر فلان يفر فرارا ، فهو فرور ، إذا هرب من طالبه ، وزاغ عن عينه .
والتعبير بقوله : { دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً } ، يشعر بحرص نوح التام على دعوتهم ، فى كل وقت يظن فيه أن دعوته لهم قد تنفع .
كما أن التعبير بقوله : { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً } يدل دلالة واضحة على إعراضهم التام عن دعوته ، أى : فلم يزدهم دعائى شيئا من الهدى ، وإنما زادهم بُعْداً عنى ، وفرارا منى .
وإسناد الزيادة إلى الدعاء ، من باب الإِسناد إلى السبب ، كما فى قولهم : سرتنى رؤيتك ، وقوله { فِرَاراً } مفعول ثان لقوله { فَلَمْ يَزِدْهُمْ } والاستثناء مفرغ من عموم الأحوال والمستثنى منه مقدر ، أى : فلم يزدهم دعائى شيئا من أحوالهم التى كانوا عليها إلا الفرار .
ويصح أن يكون الاستثناء منقطعا . أى : فلم يزدهم دعائى قرباً من الحق ، لكن زادهم فرارا منه .
ولا يمل ولا يفتر ولا ييئس أمام الإعراض والإصرار : ( فلم يزدهم دعائي إلا فرارا ) . . فرارا من الداعي إلى الله . مصدر الوجود والحياة ، ومصدر النعم والآلاء ، ومصدر الهدى والنور . وهو لا يطلب أجرا على السماع ولا ضريبة على الاهتداء ! الفرار ممن يدعوهم إلى الله ليغفر لهم ويخلصهم من جريرة الإثم والمعصية والضلال !
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ رَبّ إِنّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيَ إِلاّ فِرَاراً * وَإِنّي كُلّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوَاْ أَصَابِعَهُمْ فِيَ آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً } .
يقول تعالى ذكره : قال نوح لما بلغ قومه رسالة ربه ، أو أنذرهم ما أمره به أن ينذرهموه فعصوه ، وردّوا عليه ما أتاهم به من عنده : رَبّ إنّي دَعَوْتُ قَوْمي لَيْلاً وَنهارا إلى توحيدك وعبادتك ، وحذّرتهم بأسك وسطوتك ، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائي إلاّ فِرَارا يقول : فلم يزدهم دعائي إياهم إلى ما دعوتهم إليه من الحقّ الذي أرسلتني به لهم إلاّ فِرَارا يقول : إلا إدبارا عنه وهربا منه وأعراضا عنه . وقد :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائي إلاّ فِرَارا قال : بلغنا أنهم كانوا يذهب الرجل بابنه إلى نوح ، فيقول لابنه : احذر هذا لايغوينك ، فأراني قد ذهب بي أبي إليه وأنا مثلك ، فحذرني كما حذّرتك .
ومعنى { لم يَزدهم دعائيَ إلاّ فراراً } أن دعائي لهم بأن يعبدوا الله وبطاعتهم لي لم يزدهم ما دعوتهم إليه إلاّ بعداً منه ، فالفرار مستعار لقوة الإِعْراض ، أي فلم يزدهم دعائي إياهم قرباً مما أدعوهم إليه .
واستثناء الفرار من عموم الزيادات استثناء منقطع . والتقدير : فلم يزدهم دعائي قرباً من الهدى لكن زادهم فراراً كما في قوله تعالى حكاية عن صالح عليه السلام { فما تزيدونني غير تخسير } [ هود : 63 ] .
وإسناد زيادة الفرار إلى الدعاء مجاز لأن دعاءه إياهم كان سبباً في تزايد إعراضهم وقوة تمسكهم بشركهم .
وهذا من الأسلوب المسمى في علم البديع تأكيد المدح بما يشبه الذم ، أو تأكيدَ الشيء بما يشبه ضده ، وهو هنا تأكيد إِعراضهم المشبه بالابتعاد بصورةٍ تشبه ضد الإِعراض .
ولما كان فرارهم من التوحيد ثابتاً لهم من قبل كان قوله : { لم يزدهم دعائي إلاّ فراراً } من تأكيد الشيء بما يشبه ضده .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
فلم يزدهم دعائي إياهم إلى ما دعوتهم إليه من الحقّ الذي أرسلتني به لهم" إلاّ فِرَارا "يقول: إلا إدبارا عنه وهربا منه وأعراضا عنه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أصل هذا أن عداوتهم كانت قد استبدت بنوح عليه السلام، وكانوا قد استثقلوه، وأبغضوا كلامه، فحدث لهم ببغضهم كلامه واستثقالهم إياه معنى حملهم على الفرار، فنسب ذلك إلى الدعاء؛ لأن حدوث ذلك المعنى كان عند وجود الدعاء، فنسبه إلى الدعاء على معنى المجاورة والقرب لا أن يكون الدعاء في الحقيقة سببا لزيادة الفرار، وهو كقوله تعالى: {وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم} [التوبة: 125] والقرآن لم يجعل سببا لزيادة الرجس، ولكنهم لما أحدثوا بغضا عندما تلي عليهم القرآن، فحدث لهم بذلك معنى حملهم على ذلك الوجه، فأضيفت تلك الزيادة إلى القرآن، إذ عند ذلك حدث ذلك السبب الزائد في الرجس، فنسب إليه على معنى المجاورة، فعلى ذلك لما أبغضوا، واستثقلوا كلامه ودعاءه أحدث لهم ذلك البغض زيادة نفار وجحود.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أي لم يزدادوا بدعائي إلا فرارا عن قبوله وبعدا عن استماعه، وإنما سمي كفرهم عند دعائه زيادة في الكفر، لأنهم كانوا على كفر بالله وضلال عن حقه، ثم دعاهم نوح إلى الإقرار به وحثهم على الإقلاع عن الشرك، فلم يقبلوا، فكفروا بذلك، فكان ذلك زيادة في الكفر.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
أي: كلما دعوتهم ليقتربوا من الحق فَروا منه وحَادُوا عنه.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
من الحقيقة الدامغة التي تفرض نفسها عليهم، وتنفذ إلى عقولهم، وتنساب في مشاعرهم، وتطبق على وجودهم، فيفرون منها كما لو كان هناك خطرٌ كبيرٌ يتهدّدهم ليخرجهم من واقعهم الذي اعتادوا عليه، ويُربك عاداتهم وتقاليدهم التي ورثوها من أجدادهم، ولذلك فإن الرسول الماثل أمامهم يمثل الرمز لهذا الخطر، فيفرون منه وهو الضعيف بينهم في نظرهم، كما لو كان يريد الإطباق عليهم لافتراسهم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ومن العجيب أن تكون الدعوة سبباً لفرارهم، ولكن بما أنّ كلّ دعوة تحتاج إلى نوع من الاستعداد وصفاء القلب والتجاذب المتبادل فليس عجيباً أن يكون هنا أثر معاكس في القلوب الخاملة، وبمعنى آخر أنّ أعداء الحق المعاندين عندما يستمعون لدعوة المؤمنين الرساليين يظهرون لهم المقاومة والإصرار على العناد، وهذا ما يبعدهم عن اللّه بصورة أكثر، ويقوي عندهم روح الكفر والنفاق. وهذا ما أُشير إليه في سورة الإسراء (82): (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلاّ خساراً). وما نقرأ كذلك في آيات هذا الكتاب السماوي أنّه سبب لهداية المتقين: (...هدى للمتقين). ولهذا لابدّ أن يكون هناك مرحلة من التقوى في وجود الإنسان وإن كانت ضعيفة، حتى يتهيأ لقبول الحقّ، هذه المرحلة هي مرحلة الروح الباحثة عن الحقيقة والاستعداد لتقبل كلمات الحق.