مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَلَمۡ يَزِدۡهُمۡ دُعَآءِيٓ إِلَّا فِرَارٗا} (6)

قوله تعالى : { قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا } .

اعلم أن هذا من الآيات الدالة على أن جميع الحوادث بقضاء الله وقدره ، وذلك لأنا نرى إنسانين يسمعان دعوة الرسول في مجلس واحد بلفظ واحد ، فيصير ذلك الكلام في حق أحدهما سببا لحصول الهداية ، والميل والرغبة ، وفي حق الثاني سببا لمزيد العتو والتكبر ، ونهاية النفرة ، وليس لأحد أن يقول : إن تلك النفرة والرغبة حصلتا باختيار المكلف ، فإن هذا مكابرة في المحسوس ، فإن صاحب النفرة يجد قلبه كالمضطر إلى تلك النفرة وصاحب الرغبة يجد قلبه كالمضطر إلى تلك الرغبة ، ومتى حصلت تلك النفرة وجب أن يحصل عقيبه التمرد والإعراض ، وإن حصلت الرغبة وجب أن يحصل عقيبه الانقياد والطاعة ، فعلمنا أن إفضاء سماع تلك الدعوة في حق أحدهما إلى الرغبة المستلزمة لحصول الطاعة والانقياد وفي حق الثاني إلى النفرة المستلزمة لحصول التمرد والعصيان لا يكون إلا بقضاء الله وقدره ، فإن قيل : هب أن حصول النفرة والرغبة ليس باختياره ، لكن حصول العصيان عند النفرة يكون باختياره ، فإن العبد متمكن مع تلك النفرة أن ينقاد ويطيع ، قلنا : إنه لو حصلت النفرة غير معارضة بوجه من وجوه الرغبة بل خالصة عن جميع شوائب الرغبة امتنع أن يحصل معه الفعل ، وذلك لأنه عندما تحصل النفرة والرغبة لم يحصل الفعل البتة ، فعند حصول النفرة انضم إلى عدم المقتضي وجود المانع ، فبأن يصير الفعل ممتنعا أولى ، فثبت أن هذه الآية من أقوى الدلائل على القضاء والقدر .