والاستفهام فى قوله : { أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين } للنفى والإِنكار . والفاء للعطف على مقدر يقتضيه الكلام .
أى : أنحيف فى أحكامنا فنجعل الذين أخلصوا لنا العبادة . كالذين أشركوا معنا آلهة أخرى ؟ أو نجعل الذين أسلموا وجوههم لنا ، كالذين فسقوا عن أمرنا ؟
كلا ، لن نجعل هؤلاء كهؤلاء ، فإن عدالتنا تقتضى التفريق بينهم .
قال الجمل : لما نزلت هذه الآية وهى قوله : { إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ . . . } قال كفار مكة للمسلمين إن الله فضلنا عليكم فى الدنيا ، فلابد وأن يفضلنا عليكم فى الآخرة ، فإذا لم يحصل التفضيل ، فلا أقل من المساواة فأجابهم الله - تعالى - بقوله : { أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين } .
فاء التفريع تقتضي أن هذا الكلام متفرع على ما قبله من استحقاق المتقين جنات النعيم ، ومقابلته بتهديد المشركين بعذاب الدّنيا والآخرة ، ولكن ذلك غير مصرح فيه بما يناسب أن يتفرع عليه هذا الإنكار والتوبيخ فتعيَّن تقدير إنكار من المعرض بهم ليتوجه إليهم هذا الاستفهام المفرع ، وهو ما أشرنا إليه آنفاً من توقع أو وقوعَ سؤال .
والاستفهام وما بعده من التوبيخ ، والتخطئة ، والتهكم على إدلالهم الكاذب ، مؤذن بأن ما أنكر عليهم ووبخوا عليه وسُفهوا على اعتقاده كان حديثاً قد جرى في نواديهم أو استسخروا به على المسلمين في معرض جحود أن يكون بَعث ، وفرضهم أنه على تقدير وقوع البعث والجزاء لا يكون للمسلمين مزية وفضل عند وقوعه .
وعن مقاتل لما نزلت آية { إن للمتقين عند ربّهم جنات النعيم } [ القلم : 34 ] قالت قريش : إن كان ثمة جنة نعيم فلنا فيها مثل حظنا وحظهم في الدّنيا ، وعن ابن عباس أنهم قالوا : إنا نعطى يومئذٍ خيراً مما تُعطون فنزل قوله : { أفنجعل المسلمين كالمجرمين } الآية .
والهمزة للاستفهام الإِنكاري ، فرع إنكار التساوي بين المسلمين والكافرين على ما سبق من اختلاف جزاء الفريقين فالإِنكار متسلط على ما دار بين المشركين من القول عند نزول الآية السابقة أو عند نزول ما سبقها من آي القرآن التي قابلت بين جزاء المؤمنين وجزاء المشركين كما يقتضيه صريحاً قوله : { ما لكم كيف تحكمون } إلى قوله : { إن لكم لما تحكمون } [ القلم : 39 ] .
وإنكار جعل الفريقين متشابهين كناية عن إعطاء المسلمين جزاء الخير في الآخرة وحرمان المشركين منه ، لأن نفي التساوي وارد في معنى التضاد في الخير والشر في القرآن وكلام العرب قال تعالى : { أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون } [ السجدة : 18 ] ، وقال : { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة } [ الحشر : 20 ] ، وقال : { أم نجعل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار } [ ص : 28 ] وقال السموأل أو الحارثي :
سَلي إن جَهِلْتِ الناسَ عنّا وعنهمُ *** فليس سواءً عالم وجهول
وإذا انتفى أن يكون للمشركين حظ في جزاء الخير انتفى ما قالوه من أنهم أفضل حظاً في الآخرة من المسلمين كما هو حالهم في الدّنيا بطريق فحوى الخطاب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أفنجعل المسلمين} في الآخرة. {كالمجرمين} في الخير...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
أفنجعل أيها الناس في كرامتي ونعمتي في الآخرة الذين خضعوا لي بالطاعة وذلوا لي بالعبودية وخشعوا لأمري ونهي، كالمجرمين الذي اكتسبوا المآثم وركبوا المعاصي وخالفوا أمري ونهي؟ كَلاّ ما الله بفاعل ذلك...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أفنجعل من جعل كل شيء سوى الله تعالى لله سالما، لا يشرك فيه أحدا كالذي أجرم، فجعل في كل شيء سالم له شركا في العبادة والتسمية، وبيّن الله تعالى أنه ولي المؤمنين وعدو المجرمين؟. فنقول: أفئن زعم أعدائي أن أسوي بينهم وبين الأحباء والجمع بينهم فلا نفعل ذلك لأن فيه تضييع الحكمة، لأن الحكمة توجب التفرقة بين العدو والولي، وفي الجمع بينهما تضييعها.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
كان صناديد قريش يرون وفور حظهم من الدنيا وقلة حظوظ المسلمين منها، فإذا سمعوا بحديث الآخرة وما وعد الله المسلمين قالوا: إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد ومن معه لم تكن حالهم وحالنا إلا مثل ما هي في الدنيا، وإلا لم يزيدوا علينا ولم يفضلونا، وأقصى أمرهم أن يساوونا، فقيل: أنحيف في الحكم فنجعل المسلمين كالكافرين...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان عدم إيراث كل من الفريقين الدار التي تقدم وصفها تسوية بين المحسن والمسيء، وكان ذلك لا يليق بحكيم أن يفعله، وجب إنكاره لتحقق أن ما أخبر به سبحانه لا يكون إلا كذلك لا سيما وقد كان الكفار يقولون: إنهم كالمسلمين أو أحسن حالاً منهم، وذلك أنه إن كان لا بعث، كما كانوا يظنون، فقد استووا فيما بعده مع ما فضلوهم به في الدنيا من اتباع الأهواء والظفر باللذائذ، وإن كان ثم بعث فقد كانوا يقولون لشبهة دعتهم إليها شهوتهم: أما نكون على تقديره أحسن حالاً منكم وآثر عند الله في حسن العيش كما نحن في هذه الدار لأنه ما بسط لنا في هذه الدار إلا ونحن عنده أفضل منكم، فقال تعالى منكراً ومكذباً لذلك غاية إنكار والتكذيب عائباً التحكم بالجهل غاية العيب نافياً للمساواة ليكون انتقاماً هو أعلى من باب الأولى مسبباً عما تقديره: ولا يكون لغير المتقين ذلك: {أفنجعل المسلمين} أي الذين هم عريقون في الانقياد لأوامرنا والصلة لما أمرنا بوصله طلباً لمرضاتنا فلا اختيار لهم معنا في نفس ولا غيرها لحسن جبلاتهم {كالمجرمين} أي الراسخين في قطع ما أمرنا به أن يوصل وأنتم لا تقرون مثل ذلك، بل من عاندكم نوع معاندة قاطعتموه ولو وصل الأمر إلى القتل...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وعند هاتين الخاتمتين يدخل معهم في جدل لا تعقيد فيه كذلك ولا تركيب. ويتحداهم ويحرجهم بالسؤال تلو السؤال عن أمور ليس لها إلا جواب واحد يصعب المغالطة فيه؛ ويهددهم في الآخرة بمشهد رهيب، وفي الدنيا بحرب من العزيز الجبار القوي الشديد: أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وإنكار جعل الفريقين متشابهين كناية عن إعطاء المسلمين جزاء الخير في الآخرة وحرمان المشركين منه، لأن نفي التساوي وارد في معنى التضاد في الخير والشر في القرآن وكلام العرب قال تعالى: {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون} [السجدة: 18]، وقال: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} [الحشر: 20]، وقال: {أم نجعل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} [ص: 28]، وإذا انتفى أن يكون للمشركين حظ في جزاء الخير انتفى ما قالوه من أنهم أفضل حظاً في الآخرة من المسلمين كما هو حالهم في الدّنيا بطريق فحوى الخطاب. وقوله: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين} كلام موجه إلى المشركين وهم المقصود ب {المجرمين،} عُبر عنهم بطريق الإِظهار دون ضمير الخطاب لما في وصف {المجرمين} من المقابلة ليكون في الوصفين إيماء إلى سبب نفي المماثلة بين الفريقين.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وكتاب الله عندما سجل هذه القصة بين دفتي المصحف الكريم إنما يريد ضرب المثل لكافة المؤمنين، حتى يؤدوا للمساكين والمحرومين ما لهم من حقوق معلومة في أموالهم وثمراتهم، فبأداء تلك الحقوق تزكو أموالهم، وتنمو ثرواتهم، وإلا ضاع عليهم رأس المال والربح، جزاء ما ضيعوه من الصدقة والزكاة، وخسروا خسرانا مبينا. وتساءل كتاب الله هل يعقل أن يكون الذين آمنوا واتقوا، -عند ربهم- في درجة الذين كفروا وأجرموا، وإنه لسؤال لا يصعب الجواب عنه جوابا منطقيا: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم، كيف تحكمون}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} في الميزان، بحيث يتساوى مصير الذين اتقوا ربهم وأسلموا أمرهم إليه، وجعلوا الحياة ساحة الطاعة لله في جميع جوانبها ومجالاتها العملية، ومصير الذين ابتعدوا عن التقوى وتمرّدوا على الله، وجعلوا من الحياة ساحة الجريمة الفكرية والعملية، فأساءوا إلى مقام ربهم، وظلموا عباده في أقوالهم وأفعالهم، إن ذلك مرفوضٌ عند الله الذي يحكم بين عباده بالعدل، فيجزي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته. وهذا خطٌّ مستقيمٌ لا بد من أن يأخذ به العاملون في خط الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، بحيث يواجهون الموقف من الناس الذين يحيطون بهم، على أساس الإخلاص لمنطق الدعوة في القيمة الاجتماعية، فيقفون من المسلمين الذين يلتزمون الخط الإسلامي موقف الإِعزاز والتكريم والدفاع عنهم في ساحات الصراع التي يخوضونها ضد الكفر والباطل.