{ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ( 171 ) إنهم لهم المنصورون ( 172 ) وإنا جندنا لهم الغالبون ( 173 ) فتولى عنهم حتى حين ( 174 ) وأبصرهم فسوف يبصرون ( 175 ) أفبعذابنا يستعجلون ( 176 ) فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين ( 177 )وتولى عنهم حتى حين ( 178 ) وأبصر فسوف يبصرون ( 179 ) سبحان ربك رب العزة عما يصفون ( 180 ) وسلام على المرسلين ( 181 )والحمد لله رب العالمين ( 182 ) }
كلمتنا : وعدنا الرسل بالنصر ، مثل : { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي . . . } [ المجادلة : 21 ] . وقد تم فتح مكة ، ودخل الناس في دين الله أفواجا .
171 ، 172 ، 173 – { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإنا جندنا لهم الغالبون } .
وعد الله المؤمنين بالنصر ، وحسن الخاتمة ، وقد يُهزم المؤمنون في معركة ، وقد يمتحنون في موقف ، لكن الله وعد الصادقين بالجزاء الحسن في الدنيا ، أو الآخرة ، فإن استشهدوا فلهم حسن الجزاء في الآخرة ، تلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا ، وهي أن العاملين المخلصين يستحقون النصر .
قال تعالى : { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز } . [ المجادلة : 21 ] .
وقال تعالى : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } . [ غافر : 51 ] .
وتاريخ الكفاح بين المسلمين في مكة مع المشركين يثبت ذلك ، حيث مكث الرسول صلى الله عليه في مكة ثلاثة عشر عاما ، وكل من آمن به مائتا رجل وامرأة ، ثم رحل إلى المدينة ووضع أساس الدولة ، وخاض غزوات بدر وأحد والخندق والحديبية ، ثم فتحت مكة ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ، واستمرّ المدُّ الإسلامي في غزوتي حنين والطائف . وغزوة تبوك ، وحروب الردّة ، ثم فتح المسلمون بلاد فارس والروم ومصر وشمال أفريقيا ، وقد أصاب المسلمين ليل طويل ، وظلام دامس ، فسقطت بغداد في يد التتار سنة 656 ه ، واستولى الضعف والعجز على كثير من البلاد الإسلامية ، لكن ذلك لم يمنع المسلمين من أن يهبّوا في معركة عين جالوت ، حيث هزموا التتار ، وأعادوهم ناكصين على أعقابهم ، ثم دخل التتار في الدين الإسلامي .
ثم كانت الحروب الصليبية ، التي أعقبها تقدم صلاح الدّين بجيش يجمع رجال مصر والشام ، وانتصر في معركة حطين ، ودخل المسجد الأقصى ، وحمد الله حمدا كثيرا .
وفي عصرنا الحاضر نجد المعارك دائرة بين الإسلام والصهيونية وغيرها ، وإذا تأملنا وجدنا أن أقوى أسلحة الأمة هو ما يأتي :
1- التزامها بدينها وصدق إيمانها وطاعة ربّها .
2- ترك الفرقة والاختلاف والبعد عن النزاع والتخاصم .
3- الوحدة وضم الصف وجمع الكلمة .
4- إعداد العدّة بالعلم والعمل والتفوق العلمي الحضاري .
لقد نصر الله أنبياءه ورسله مثل : إبراهيم ، ونوح ، ويونس ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وهزم الكافرين المعاندين .
وإن أعدى أعدائنا هو الذي يلهينا عن عقيدتنا ، وإن باب النصر في التمسك بهذه العقيدة ، والتمسك بسنة الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهدى السلف الصالح ، والأخذ بنصيب وافر من العلوم والتقنية وكل أبواب التفوق ، وهذا هو الإعداد الجيّد لأسباب النصر ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
{ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين } .
أي : تقدم في الكتاب الأول أن العاقبة للرسل وأتباعهم في الدنيا والآخرة ، ولهذا قال جل جلاله .
أي : في الدنيا والآخرة كما تقدم بيان نصرتهم على قومهم ، ممن كذبهم وخالفهم ، كيف أهلك الله الكافرين ، ونجّى عباده المؤمنين .
{ وإن جندنا لهم الغالبون } . أي : تكون لهم العاقبة .
وهذا النصر للمؤمنين في أغلب الأحيان في الدنيا ، وباليقين والتأكيد في الآخرة ، لقد انهزم المؤمنون في غزوة أحد ، وكان ذلك درسا عمليا للمؤمنين في حياتهم ، وسلوكهم مع الهزيمة والنصر ، بالثبات واليقين والأمل ، وأن رحى الحرب دائرة ، يوم لك ويوم عليك ، وأن الجراح التي تصيبك والآلام تماثلها جراح سابقة ولاحقة عند الأعداء ، لكن العاقبة للمتقين ، والثواب للمؤمنين ، وإن لم تصادف النصر في الدنيا ، فستلقى الثواب وحسن الجزاء في الآخرة ، ورضوانا من الله أكبر .
ثم بين أنّ رسل الله وجنده منصورون غالبون عاجلا وأجلا ، والأول أكثر ، والثاني تحقيقي يقيني . ا ه .
وهو يقصد أن قوله تعالى : { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم أهم المنصورون * وإن جمدنا لهم الغالبون } .
أن النصر كان في الأكثر للمسلمين ، فقد انهزموا في بعض الغزوات ، وفي بعض المعارك ، لكن العاقبة كانت للمؤمنين ، فنصر المؤمنين في الدنيا كان هو الأعم الأغلب ، أمّا النصر في الآخرة فهو يقيني على التحقيق .
وكلّ ذلك يفتح الباب أمام الدعاة والهداة ، وقوى الأمة الإسلامية ورموزها وقادتها للأمل والعمل ، حتى لا تصاب الأمة بالإحباط والتردّي . نحن نشاهد الأمم الكبرى تتقدم علميا واقتصاديا ، لكن ذلك يوجب علينا ألا نيأس من المستقبل ، وأن نثق في قدرات أمّتنا على استعادة الكرّة .
وبعض علماء الاجتماع يذكرون أن التطوّر والتقدم دائري متحرّك ، تقدم المسلمون في عصر النبوة والعصر الأموي العباسّي الأول ، ثم تقهقروا ومرّ بهم ليل طويل ، تقدم فيه الغرب وأمريكا وروسيا ، ثم تضعضعت روسيا وتفككت ، وليس ببعيد أن تعود الكرّة للعالم العربي والإسلامي لاسترداد المجد ، والتفوق والتقدم ، بيد أن ذلك مرهون بالأخذ بالأسباب ، وبالعمل والأمل ، وبالتوكل لا بالتواكل ، والتوكل هو الأخذ بالأسباب ، ثم الاعتماد على الله تعالى .
قال تعالى : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون } . [ الجمعة : 10 ] .
وقال تعالى : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا } . [ الكهف : 30 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : " ما أكل أحد طعاما خيرا من أن يأكل من عمل يده ، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده " {[564]} .
ويقول تعالى : { ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } . [ يوسف : 87 ] .
فعلينا أن نحارب اليأس والقنوط ، وأن نزرع الأمل وحبّ العمل ، والاستشراف لمستقبل أفضل ، ولا يشترط أن نجني نحن ثمار النصر ، يكفي أن نعمل وأن نبني ، وأن تُكمل الأجيال القادمة ما وضعنا أساسه وأقمنا أصوله .
قال صلى الله عليه وسلم : " إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة يَغْرسها فليغرسها " {[565]} .
وهذا الحديث يحثنا على العمل والأمل في سائر الأحوال والظروف ، ودائما يعقب الليل ظهور الفجر ، وأنوار الصباح ، وقد انهزمت ألمانيا في الحرب العالمية ، وكذلك اليابان ، لكن الإصرار والعمل والأمل ، والرغبة في التفوّق ، جعلهما يستعيدان المجد والمكانة ، ونحن أولى بالأمل في وجه الله القائل : { فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا } . [ الشرح : 5 ، 6 ] .
ويقول تعالى : { ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما } . [ النساء : 104 ] .
ويقول تعالى : { حتى إذا استيئس الرسل وظنوا إنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فننجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين } . [ يوسف : 110 ] .
وفي التفسير : إن الله يمتحن المؤمنين بالشدّة والبلاء ، تلك سنته في عباده ، قال تعالى : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتيكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب } . [ البقرة : 214 ] .
فلله حكمة سامية في اختبار المرسلين ، واختبار عباده المؤمنين ، حتى إذا طال الظلام ، واشتدت عوامل اليأس ، ومرت بعض لحظات من الخوف والتوجُّس ، ومرّت ولو لبرهة لحظات اليأس أو الخوف من تخلّف النصر ، أو تكذيب الأتباع أنفسهم ، عند هذه الشدّة يأتي نصر الله ووعده الصادق في نصر المؤمنين ، وهزيمة المجرمين المكذّبين .
وصدق الله العظيم : { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
لهم الغالبون الذين نجوا من عذاب الدنيا والآخرة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَإنّ جُنْدَنا لَهُمُ الغالِبُونَ": يقول:إن حزبنا وأهل ولايتنا.
"لهمُ الغالبون": لهم الظفر والفلاح على أهل الكفر بنا، والخلاف علينا...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أخبر تعالى أن جنود الله للكفار لغالبون: يقهرونهم تارة بالحجة وأخرى بالقتل.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن الغلبة كانت لهم ولمن بعدهم في العاقبة، وكفى بمشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين مثلاً يحتذى عليها وعبراً يعتبر بها.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما خص بذلك المرسلين، عم فقال: {وإن جندنا} أي من المرسلين وأتباعهم.
ولما كان مدلول الجند في اللغة العسكر والأعوان والمدينة وصنفاً من الخلق على حدة، قال جامعاً على المعنى دون اللفظ نصاً على المراد: {لهم} أي لا غيرهم.
{الغالبون} أي وإن رئي أنهم مغلوبون؛ لأن العاقبة لهم إن لم يكن في هذه الدار فهو في دار القرار...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هذه بشارة عظيمة لمن اتصف بأنه من جند اللّه، بأن كانت أحواله مستقيمة، وقاتل من أمر بقتالهم، أنه غالب منصور...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 171]
وبمناسبة التهديد يقرر وعد الله لرسله بالنصر والغلبة:
(ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. إنهم لهم المنصورون. وإن جندنا لهم الغالبون)..
والوعد واقع وكلمة الله قائمة. ولقد استقرت جذور العقيدة في الأرض؛ وقام بناء الإيمان، على الرغم من جميع العوائق، وعلى الرغم من تكذيب المكذبين، وعلى الرغم من التنكيل بالدعاة والمتبعين. ولقد ذهبت عقائد المشركين والكفار. وذهبت سطوتهم ودولتهم؛ وبقيت العقائد التي جاء بها الرسل. تسيطر على قلوب الناس وعقولهم، وتكيف تصوراتهم وأفهامهم. وما تزال على الرغم من كل شيء هي أظهر وأبقى ما يسيطر على البشر في أنحاء الأرض. وكل المحاولات التي بذلت لمحو العقائد الإلهية التي جاء بها الرسل، وتغليب أية فكرة أو فلسفة أخرى قد باءت بالفشل. باءت بالفشل حتى في الأرض التي نبعث منها. وحقت كلمة الله لعباده المرسلين. إنهم لهم المنصورون وإن جنده لهم الغالبون.
هذه بصفة عامة. وهي ظاهرة ملحوظة. في جميع بقاع الأرض. في جميع العصور.
وهي كذلك متحققة في كل دعوة لله. يخلص فيها الجند، ويتجرد لها الدعاة. إنها غالبة منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق، وقامت في طريقها العراقيل. ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار، وقوى الدعاية والافتراء، وقوى الحرب والمقاومة، وإن هي إلا معارك تختلف نتائجها. ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله لرسله. والذي لا يخلف ولو قامت قوى الأرض كلها في طريقه. الوعد بالنصر والغلبة والتمكين.
هذا الوعد سنة من سنن الله الكونية. سنة ماضية كما تمضي هذه الكواكب والنجوم في دوراتها المنتظمة؛ وكما يتعاقب الليل والنهار في الأرض على مدار الزمان؛ وكما تنبثق الحياة في الأرض الميتة ينزل عليها الماء.. ولكنها مرهونة بتقدير الله، يحققها حين يشاء. ولقد تبطىء آثارها الظاهرة بالقياس إلى أعمار البشر المحدودة. ولكنها لا تخلف أبداً ولا تتخلف وقد تتحقق في صورة لا يدركها البشر لأنهم يطلبون المألوف من صور النصر والغلبة، ولا يدركون تحقق السنة في صورة جديدة إلا بعد حين!
ولقد يريد البشر صورة معينة من صور النصر والغلبة لجند الله وأتباع رسله. ويريد الله صورة أخرى أكمل وأبقى. فيكون ما يريده الله. ولو تكلف الجند من المشقة وطول الأمد أكثر مما كانوا ينتظرون.. ولقد أراد المسلمون قبيل غزوة بدر أن تكون لهم عير قريش وأراد الله أن تفوتهم القافلة الرابحة الهينة؛ وأن يقابلوا النفير وأن يقاتلوا الطائفة ذات الشوكة. وكان ما أراده الله هو الخير لهم وللإسلام. وكان هو النصر الذي أراده الله لرسوله وجنده ودعوته على مدى الأيام.
ولقد يهزم جنود الله في معركة من المعارك، وتدور عليهم الدائرة، ويقسو عليهم الابتلاء؛ لأن الله يعدهم للنصر في معركة أكبر. ولأن الله يهيىء الظروف من حولهم ليؤتي النصر يومئذ ثماره في مجال أوسع، وفي خط أطول، وفي أثر أدوم.
لقد سبقت كلمة الله، ومضت إرادته بوعده، وثبتت سنته لا تتخلف ولا تحيد:
(ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون).
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وعطف {وإنَّ جُندنا لهم الغالِبُونَ} بشارة للمؤمنين فإن المؤمنين جند الله، أي أنصاره لأنهم نصروا دينه وتلقوا كلامه، كما سموا حزب الله في قوله: {كتب اللَّه لأغلبن أنا ورسلي إن اللَّه قوي عزيز} [المجادلة: 21] إلى قوله: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} [المجادلة: 22] إلى قوله: {أولئك حزب اللَّه ألا إن حزب اللَّه هم المفلحون} [المجادلة: 22]. وقوله: {لهُمُ الغالِبُونَ} يشمل علوّهم على عدوّهم في مقام الحجاج وملاحم القتال في الدنيا، وعلوّهم عليهم في الآخرة كما قال تعالى: {والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة} [البقرة: 212] فهو من استعمال {الغالِبُونَ} في حقيقته ومجازه.
ومعنى {المنصُورون} و {الغالِبُونَ} في أكثر الأحوال وباعتبار العاقبة، فلا ينافي أنهم يُغلبون نادراً ثم تكون لهم العاقبة، أو المراد النصر والغلبة الموعود بهما قريباً وهما ما كان يوم بدر.