وفى التعبير بقوله - سبحانه - { فَوَقَعَ الحق وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } تجسيم لهذا الحق الذي كان عليه موسى ، وتثبيت واستقرار له ، حتى لكأنه شىء ذو ثقل نزل على شىء آخر خفيف الوزن فأزاله ومحاه من الوجود .
وهذه الآيات الكريمة تصور لنا كيف أن الباطل قد يسحر عيون الناس ببريقه لفترة من الوقت ، وقد يسترهب قلوبهم لساعة من الزمان ، حتى ليخيل إلى الكثيرين الغافلين أنه غالب وجارف . ولكن ما إن يواجهه الحق الهادىء الثابت المستقر بقوته التي لا تغالب حتى يزهق ويزول ، وينطفىء كشعلة الهشيم ، وإذا بأتباع هذا الباطل يصيبهم الذل والصغار ، وهم يرون صروحهم تتهاوى ، وآمالهم تتداعى ، أمام نور الحق المبين ، وإذا بتحديهم الصريح ، وتطاولهم الأحمق يتحول إلى استسلام مهين ، وذل مشين .
قوله { فوقع الحق } تفريع على { تلقّف ما يأفكون } . والوقوع حقيقته سقوط الشيء من أعلى إلى الأرض ، ومنه : وقَع الطائر ، إذا نَزَل إلى الأرض ، واستعير الوقوع لظهور أمر رفيع القدر ، لأن ظهوره كان بتأييد إلهي فشبه بشيء نزل من علو ، وقد يطلق الوقوع على الحصول لأن الشيء الحاصل يشبه النازل على الأرض ، وهي استعارة شائعة قال تعالى : { وإن الدين لَواقع } [ الذاريات : 6 ] أي : حاصل وكائن ، والمعنى فظهر الحق وحصل .
ولعل في اختيار لفظ ( وقع ) ، هنا دون ( نزل ) مراعاة لفعل الإلقاء لأن الشيء الملقَى يقع على الأرض فكانَ وقوع العصا على الأرض وظهور الحق مقترنين .
و { الحق } : هو الأمر الثابت الموافق للبرهان ، وضده الباطل ، والحق هنا أريد به صدق موسى وصحة معجزته وكون ما فعلته العصا هو من صنع الله تعالى ، وأثَرِ قدرته .
و { بطل } : حقيقته اضمحل . والمراد : اضمحلال المقصود منه وانتفاء أثَرٍ مزعوم لشيء يقال : بطَل سعيه ، أي : لم يأت بفائدة ، ويقال : بطَل عمله ، أي : ذهب ضياعاً وخُسر بلا أجر ، ومنه قوله تعالى : { ويُبْطلُ الباطلَ } [ الأنفال : 8 ] أي : يزيل مفعوله وما قصدوه منه ، فالباطل هو الذي لا فائدة فيه ، أو لا خير فيه ، ومنه سمي ضد الحق باطلاً لأنه شيء لا يحصل منه الأثر المرجو ، وهو القبول لدى العقول المستقيمة .
وشاع هذا الإطلاق حتى صار الباطل كالاسم الجامد ، مدلوله هو ضد الحق ، ويطلق الباطل اسمَ فاعل من بطَل ، فيساوي المصدر في اللفظ ، ويتعين المراد منهما بالقرينة ، فصوغ فعل بطل يكون مشتقاً من المصدر وهو البطلان ، وقد يكون مشتقاً من الاسم وهو الباطل . فمعنى { بطل } حينئذٍ وُصف بأنه باطل مثل فَهِد وأسد ، ويصح تفسيره هنا بالمعنيين ، فعلى الأول يكون المعنى : وانتفت حينئذٍ آثار ما كانوا يعملون ، وعلى الثاني يكون المعنى : واتصف ما يعملون بأنه باطل ، وعلى هذا الوجه يتعين أن يكون المراد من الفعل معنى الظهور لا الحدوث ، لأن كون ما يعملونه باطلاً وصف ثابت له من قبللِ أن يُلقيَ موسى عصاه ، ولكن عند إلقاء العصا ظهر كونه باطلاً ، ويبعّد هذا أن استعمال صيغة الفعل في معنى ظهور حدثه لا في معنى وجوده وحدوثه ، خلافُ الأصل فلا يصار إليه بلا دَاع .
وأما من فسر { بطل } بمعنى : العدم . وفسر { ما كانوا يعملون } بحبال السحرة وعصيهم ففي تفسيره نبُو عن الاستعمال ، وعن المقام .
وزيادة قوله : { وبطل ما كانوا يعملون } بعد قوله : { فوقع الحق } تقرير لمضمون جملة { فوقع الحق } لتسجيل ذم عملهم ، ونداءٌ بخيبتهم ، تأنيساً للمسلمين وتهديداً للمشركين وللكافرين أمثالها .
و { ما كانوا يعملون } هو السحر ، أي : بطلت تخيلات الناس أن عصي السحرة وحبالهم تسعى كالحيات ، ولم يعبّر عنه بالسحر إشارة إلى أنه كان سحراً عجيباً تكلفوا له وأَتوا بمنتهى ما يعرفونه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.