ثم فصل - سبحانه - بعد ذلك عاقبة هذا الكدح ، والسعى المتواصل . . فقال - تعالى - : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ . فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً . وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً } .
والمراد بالكتاب هنا : صحيفة العمل التى سجلت فيها حسنات الإِنسان وسيئاته .
والمراد بالحساب اليسير : عرض الأعمال ، مع التجاوز عن الهفوات ، بفضل الله - تعالى - : أى : الناس جميعا يكدحون فى هذه الحياة ، ثم يعودون إلى خالقهم للحساب والجزاء ، فأما من أعطى كتابه بيمينه ، وهم المؤمنون الصادقون ، فسوف يحاسب من ربه - تعالى - حسابا يسيرا سهلا ، بأن تعرض أعماله على خالقه - تعالى - ثم يكون التجاوز عن المعاصى والثواب على الطاعة ، بدون مناقشة أو مطالبة بعذر أو حجة .
ثم ينقلب هذا الإِنسان بعد ذلك إلى أهله وعشيرته ، مبتهجا مسرورا ، بسبب فضل الله - تعالى - عليه ، ورحمته به .
وعبر - سبحانه - عن فوز هذا الإِنسان : بأنه يؤتى كتابه بيمينه ، للإِشعار بأنه من أهل السعادة والتقوى ، فقد جرت العادة أن اليد اليمنى إنما تتناول بها الأشياء الزكية الحسنة . والباء فى قوله { بيمينه } للملابسة أو المصاحبة ، أو بمعنى فى .
قال الآلوسى : والحساب اليسير : هو السهل الذى لا مناقشة فيه . وفسره صلى الله عليه وسلم بالعرض وبالنظر فى الكتاب ، مع التجاوز ، أخرج الشيخان عن عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " ليس أحد يحاسب إلا هلك " قلت يا رسول الله ، جعلنى الله فداك ، أليس الله - تعالى - يقول { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ .
فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } ، قال : ذلك العرض يعرضون ومن نوقش الحساب هلك " .
وأخرج الإِمام أحمد عن عائشة - أيضا - قالت : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فى بعض صلاته : " اللهم حاسبنى حسابا يسيرا " فلما انصرف قلت له : يا رسول الله ، ما الحساب اليسير ؟ قال : " أن ينظر فى كتابه فيتجاوز له عنه " " .
ثم قال : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا } أي : سهلا بلا تعسير ، أي : لا يحقق عليه جَميعُ دقائق أعماله ؛ فإن من حوسب كذلك يهلك{[29876]} لا محالة .
قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، أخبرنا أيوب ، عن عبد الله بن أبي مُلَيْكة ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من نُوِقش الحساب عُذِّب " . قالت : فقلت : أليس قال الله : { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا } ؟ ، قال : " ليس ذاك بالحساب ولكن ذلك العَرْض ، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب " .
وهكذا رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير ، من حديث أيوب السختياني ، به{[29877]}
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا روح بن عبادة ، حدثنا أبو عامر الخَرَاز ، عن ابن أبي مُلَيْكة ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا معذبا " . فقلت : أليس الله يقول : { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا } ؟ ، قال : " ذاك العرض ، إنه من نُوِقش الحساب عُذب " ، وقال بيده على إصبعه كأنه يَنكُتُ .
وقد رواه أيضا عن عمرو بن علي ، عن ابن أبي عدي ، عن أبي يونس القُشَيري ، عن ابن أبي مُلَيْكة ، عن القاسم ، عن عائشة ، فذكر الحديث{[29878]} أخرجاه من طريق أبي يونس القُشَيري ، واسمه حاتم بن أبي صغيرة{[29879]} به{[29880]} .
قال ابن جرير : حدثنا نصر بن علي الجهضمي ، حدثنا مسلم ، عن الحريش بن الخَرِّيت أخى الزبير ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة قالت : من نُوِقش الحساب - أو : من حُوسِب - عُذِّبَ . قال : ثم قالت : إنما الحسابُ اليسيرُ عَرض على الله عز وجل وهو يراهم{[29881]} .
وقال أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثني عبد الواحد بن حمزة بن{[29882]} عبد الله بن الزبير ، عن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن عائشة قالت : سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته : " اللهم حاسبني حسابا يسيرا " . فلما انصرف قلت : يا رسول الله ، ما الحساب اليسير ؟ قال : " أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه ، إنه من نُوِقش الحسابَ يا عائشةُ يومئذ هَلَكَ " . صحيح على شرط مسلم{[29883]} .
وحرف ( سوف ) أصله لحصول الفعل في المستقبل ، والأكثر أن يراد به المستقبل البعيد وذلك هو الشائع ، ويقصد به في الاستعمال البليغ تحقق حصول الفعل واستمراره ومنه قوله تعالى : { قال سوف أستغفر لكم ربي } في سورة [ يوسف : 98 ] ، وهو هنا مفيد للتحقق والاستمرار بالنسبة إلى الفعل القابل للاستمرارِ وهو ينقلب إلى أهله مسروراً وهو المقصود من هذا الوعد . وقد تقدم عند قوله تعالى : { فسوف نصليه ناراً } في سورة [ النساء : 30 ] . v
والحساب اليسير : هو عَرْض أعماله عليه دون مناقشة فلا يَطول زمنه فيعجَّلُ به إلى الجنة ، وذلك إذا كانت أعماله صالحة ، فالحساب اليسير كناية عن عدم المؤاخذة .
و{ من أوتي كتابه وراء ظهره } هو الكافر . والمعنى : إنه يؤتى كتابه بشماله كما تقتضيه المقابلة ب { من أوتي كتابه بيمينه } وذلك أيضاً في سورة الحاقة قوله : { وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه } ، أي يعطى كتابه من خلفه فيأخذه بشماله تحقيراً له ويناول له من وراء ظهره إظهاراً للغضب عليه بحيث لا ينظر مُناوِلُه كتابَه إلى وجهه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.