تفسير مقاتل بن سليمان - مقاتل  
{فَسَوۡفَ يُحَاسَبُ حِسَابٗا يَسِيرٗا} (8)

{ فسوف يحاسب حسابا يسيرا } آية يقول : باليسير بأن الله لا يغير حسناته ولا يفضحه .

وذلك أن الله عز وجل إذا جمع الخلائق يوم القيامة فإنهم يومج بعضهم في بعض ، مقدار ثلاث مائة سنة ، حتى إذا استوى الرب جل وعز على كرسيه ليحاسب خلقه ، فإذا جاء الرب تبارك وتعالى والملائكة صفا صفا ، فينظرون إلى الجنة ، وإلى النار ، ويجاء بالنار ، من مسيرة خمس مائة عام ، عليها تسعون ألف زمام ، في كل زمام سبعون ألف ملك ، متعلق يحبسونها عن الخلائق ، طول عنق أحدهم مسيرة سنة ، وغلظها مسيرة سنة ، ما بين منكبي أحدهم مسيرة خمسين سنة ، وجوههم مثل الجمر ، وأعينهم مثل البرق ، إذا تكلم أحدهم ، تناثرت من فيه النار ، بيد كل واحد منهم مرزبة ، عليها ثلاث مائة وستون رأسا ، كأمثال الجبال ، هي أخف بيده من الريشة ، فيجئون بها فيسوقونها ، حتى تقام عن يسار العرش .

ويجاء بالجنة يزفونها كما تزف العروس إلى زوجها ، حتى تقام عن يمين العرش ، فإذا ما عاين الخلائق النار ، وما أعد الله لأهلها ، ونظروا إلى ربهم وسكتوا ، فانقطعت عند ذلك أصواتهم ، فلا يتكلم أحد منهم من فرق الله وعظمته ، ولما يرون من العجائب من الملائكة ، ومن حملة العرش ، ومن أهل السماوات ، ومن جهنم ، ومن خزنتها ، فانقطعت أصواتهم عند ذلك . وترتعد مفاصلهم ، فإذا علم الله ما أصاب أولياءه من الخوف ، وبلغت القلوب الحناجر ، فيقوم مناد عن يمين العرش ، فينادى :{ يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون } [ الزخرف :68 ] ، فيرفع عند ذلك الإنس والجن كلهم رءوسهم والمؤمنون والكفار ، لأنهم عباده كلهم ، ثم ينادى في الثانية :{ الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين } [ الزخرف :69 ] ، فيرفع المؤمنون رءوسهم ، وينكس أهل الأديان كلهم رءوسهم ، والناس سكوت مقدار أربعين عاما ، فذلك قوله :{ هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون } [ المرسلات :35 ، 36 ] . وقوله :{ لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا } [ النبأ :38 ] ، وقال : لا إله إلا الله ، فذلك الصواب ، وقوله :{ وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا } [ طه : 108 ] ، فلا يجبهم الله ، ولا يكلمهم ، ولا يتكلمون هم مقدار أربعين سنة ، يقول بعد ذلك لملك من الملائكة ، وهو جبريل ، عليه السلام : ناد الرسل وابدأ بالأمي ، قال : فيقوم الملك ، فينادى عند ذلك أين النبي الأمي ؟ فتقول الأنبياء عند ذلك : كلنا نبيون وأميون فبين بين ، فيقول النبي العرب الأمي الحرمي ، فيقوم عند ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرفع صوته بالدعاء ، فيقول : كم من ذنب قد عملتموه ونسيتموه ، وقد أحصاه الله ، رب لا تفضح أمتي ، قال : فلا يزال يدنو من الله تعالى ، حتى يقوم بين يديه ، أقرب خلقه إليه ، فيحمد الله ويثنى عليه ، ويذكر من الثناء على الله تعالى والحمد ، حتى تعجب الملائكة منه والخلائق .

فيقول الله عز وجل : قد رضيت عنك يا محمد ، اذهب فناد أمتك ، فينادى ، وأول ما يدعو يدعو من أمته عبد الله بن عبد الأسد أبا سلمة ، فلا يزال يدنو فيقربه الله عز وجل منه فيحاسبه حسابا يسيرا ، واليسير الذي لا يأخذه بالذنب الذي عمله ، ولا يغضب الله عز وجل عليه ، فيجعل سيئاته داخل صحيفته وحسناته ظاهر صحيفته ، فيوضع على رأسه التاج من ذهب عليه تسعون ألف ذؤابة ، كل ذؤابة درة تساوي مال المشرق والمغرب ويلبس سبعين حلة من الاستبرق والسندس ، فالذي يلي جسده حريرة بيضاء .

فذلك قوله :{ ولباسهم فيها حرير } [ الحج :23 ] ، ويسور بثلاث أسورة سوار من فضة ، وسوار من ذهب ، وسوار من لؤلؤ ، ويوضع إكليل مكلل بالدر والياقوت ، وقد تلألأ في وجهه ، من نور ذلك ، فيرجع إلى إخوانه من المؤمنين ، فينظرون إليه وهو جاء من عند الله ، فتقول الملائكة والناس والجن : والله لقد أكرم الله هذا ، لقد أعطى الله لهذا ، فينظرون إلى كتابه فإذا سيئاته باطن صحيفته ، وإذا حسناته ظاهر كتابه ، فتقول عند ذلك الملائكة ما كان أذنب هذا الآدمي ذنبا قط ، والله لقد اتقى هذا العبد ، فحق أن يكرم مثل هذا العبد ، وهم لا يشعرون أن سيئاته باطن كتابه ، وذلك لمن أراد الله تعالى أن يكرمه ولا يفضحه ، قال : فيأتي إخوانه من المسلمين ، فلا يعرفونه ، فيقول : أتعرفوني ؟ فيقولون كلهم : لا ، والله ، فيقول : إنما برحت الساعة ، وقد نسيتوني ، فيقول : أنا أبو سلمة ، أبشروا بمثله يا معشر الإخوان ، لقد حاسبني ربي حسابا يسيرا ، وأكرمني ، فذلك قوله :{ فسوف يحاسب حسابا يسيرا } .