تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَأُمِّهِۦ وَأَبِيهِ} (35)

( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ) أي : يراهم ، ويفر منهم ، ويبتعد عنهم ؛ لأن الهول عظيم ، والخطب جليل .

قال عكرمة : يلقى الرجل زوجته فيقول لها : يا هذه ، أيّ بعل كنتُ لك ؟ فتقول : نعم البعل كنتَ ! وتثنى بخير ما استطاعت ، فيقول لها : فإني أطلبُ إليك اليومَ حسنًة واحدًة تهبينها{[29718]} لي لعلي أنجو مما ترين . فتقول له : ما أيسر ما طلبتَ ، ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئا أتخوف مثل الذي تخاف . قال : وإن الرجل ليلقي ابنه فيتعلق به فيقول : يا بني ، أيّ والد كنتُ لك ؟ فيثني بخير . فيقولُ له : يا بني ، إني احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك لعلي أنجو بها مما ترى . فيقول ولده : يا أبت ، ما أيسر ما طلبت ، ولكني أتخوف مثل الذي تتخوف ، فلا أستطيع أن أعطيك شيئا . يقول الله تعالى ( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ )

وفي الحديث الصحيح - في أمر الشفاعة - : أنه إذا طلب إلى كل من أولي العزم أن يشفع عند الله في الخلائق ، يقول : نفسي نفسي ، لا أسأله اليومَ إلا نفسي ، حتى إن عيسى ابن مريم يقول : لا أسأله اليوم إلا نفسي ، لا أسأله مريم التي ولدتني . ولهذا قال تعالى : ( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ) {[29719]} .

قال قتادة : الأحب فالأحبَ ، والأقرب فالأقربَ ، من هول ذلك اليوم .


[29718]:- (3) في أ: "تهبيها".
[29719]:- (1) أحاديث الشفاعة سبقت عند تفسير أول سورة الإسراء.

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَأُمِّهِۦ وَأَبِيهِ} (35)

قوله : يَوْمَ يَفِرّ المَرْءُ مِنْ أخِيهِ يقول : فإذا جاءت الصاخة ، في هذا اليوم الذي يفرّ فيه المرء من أخيه . ويعني بقوله : يفرّ من أخيه : يفرّ عن أخيه وأُمّهِ وأبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ يعني زوجته التي كانت زوجته في الدنيا وَبَنِيهِ حَذِرا من مطالبتهم إياه ، بما بينه وبينهم من التّبعات والمظالم .

وقال بعضهم : معنى قوله : يَفِرّ المَرْءُ مِنْ أخِيهِ : يفرّ عن أخيه لئلا يراه ، وما ينزل به ، لكُلّ امْرِىءٍ مِنْهُمْ يعين من الرجل وأخيه وأمه وأبيه ، وسائر من ذُكر في هذه الاَية يَوْمَئِذٍ يعني يوم القيامة إذا جاءت الصاخّة يوم القيامة شأْنٌ يُغْنِيهِ يقول : أمر يغنيه ، ويُشغله عن شأن غيره ، كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لِكُلّ امْرِىءٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شأْنٌ يُغْنِيهِ أفضي إلى كلّ إنسان ما يشغله عن الناس .

حدثنا أبو عمارة المَرْوَزِيّ الحسين بن حُريث ، قال : حدثنا الفضل بن موسى ، عن عائذ بن شريح ، عن أنس قال : سألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، إني سائلتك عن حديث أخبرني أنت به ، قال : «إنْ كانَ عِنْدي مِنْهُ عِلْمٌ » قالت : يا نبيّ الله ، كيف يُحْشرُ الرجالُ ؟ قال : «حُفاةً عُرَاةً » . ثم انتظرت ساعة فقالت : يا نبيّ الله كيف يُحْشر النساء ؟ قال : «كَذلكَ حُفاةً عُرَاةً » . قالت : واسوءَتاه من يوم القيامة قال : «وَعَنْ ذلكَ تسألِينِي ، إنّهُ قَدْ نَزَلَتْ عليّ آيَةٌ لا يَضُرّكِ كانَ عَلَيْكِ ثِيابٌ أمْ لا » ، قالت : أيّ آية هي يا نبيّ الله ؟ قال : لِكُلّ امْرِىءٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شأْنٌ يُغْنِيهِ .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله : لِكُلّ امْرِىءٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شأْنٌ يُغْنِيهِ قال : شأن قد شغله عن صاحبه .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَأُمِّهِۦ وَأَبِيهِ} (35)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

قوله:"يَوْمَ يَفِرّ المَرْءُ مِنْ أخِيهِ "يقول: فإذا جاءت الصاخة، في هذا اليوم الذي يفرّ فيه المرء من أخيه. ويعني بقوله: يفرّ من أخيه: يفرّ عن أخيه "وأُمّهِ وأبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ" يعني زوجته التي كانت زوجته في الدنيا "وَبَنِيهِ" حَذرا من مطالبتهم إياه بما بينه وبينهم من التّبعات والمظالم. وقال بعضهم: معنى قوله: يَفِرّ المَرْءُ مِنْ أخِيهِ: يفرّ عن أخيه لئلا يراه، وما ينزل به.

"لكُلّ امْرِئ مِنْهُمْ" يعني من الرجل وأخيه وأمه وأبيه، وسائر من ذُكر في هذه الآية "يَوْمَئِذٍ" يعني يوم القيامة إذا جاءت الصاخّة يوم القيامة "شأْنٌ يُغْنِيهِ" يقول: أمر يغنيه، ويُشغله عن شأن غيره.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

وقوله تعالى: {يوم يفر المرء من أخيه} {وأمه وأبيه} {وصاحبته وبنيه} فجائز أن يكون هذا على تحقيق الفرار، وجائز ألا يكون على التحقيق، ولكن وصف بالفرار لما يوجد منه المعنى الذي يوجد من الفار. قال الله تعالى: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم ولا يتساءلون} [المؤمنون: 101] والوجه فيه أن الأقرباء من شأنهم إذا اجتمعوا استبشر بعضهم ببعض، وأنسوا بالاجتماع، وإذا غابوا سألوا عن أحوالهم، واهتموا لذلك. ثم هم في ذلك اليوم يدعون السؤال عند الغيبة والاستبشار عند الحضرة، حتى كأنه لا أنساب بينهم في الحقيقة، ولكن ما يحل بكل واحد من الاهتمام يشغله عن السؤال عن حال والاستبشار برؤيته حتى يصير كالفرار لوقوع المعنى الذي يوجد من الفار لا على تحقيق الفرار لأنه قال: {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} فما يحل من الشأن يمنعه عن الفرار عن نفسه وعن أقربائه، أو يكون على حقيقة الفرار. وذلك أن الأقرباء لا يوجد منهم القيام بوفاء جملة ما عليهم من الحقوق حتى لا يوجد منهم التقصير، فيخافوا في ذلك اليوم أن يؤاخذوا بذلك، فيحملهم على الفرار، ويفر كل منهم من تحمل ثقل الأقرباء كما قال: {وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى} [فاطر: 18] وقد كانوا يتعاونون في الدنيا في تحمل الأثقال، فيخبر أنهم لا يتعاونون في ذلك اليوم، بل يفرون. ثم جائز أن يكون هذا في الكفرة. وأما أهل الإسلام فإنه يجوز أن تبقى بينهم حقوق القرابة كما أبقيت المودة في ما بين الأخلاء بقوله تعالى: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} [الزخرف: 67]. وإن كان في المسلمين والكفرة جميعا فجائز أن يكون الفرار في بعض الأحوال، وذلك في الوقت الذي لم يتفرغ أحد عن شغل نفسه. فأما إذا آمن، وجاءته البشارة، فهو يقوم بشفاعته، ويسأل عن أحواله، ولا يفر منه...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

ورتبت أصناف القرابة في الآية حسب الصعود من الصنف إلى من هو أقوى منه تدرجاً في تهويل ذلك اليوم. فابتدئ بالأخ لشدة اتصاله بأخيه من زمن الصبا فينشأ بذلك إلف بينهما يستمر طول الحياة، ثم ارتُقي من الأخ إلى الأبوين وهما أشد قرباً لابْنيهما، وقدمت الأم في الذكر لأن إلْفَ ابنها بها أقوى منه بأبيه وللرعي على الفاصلة، وانتقل إلى الزوجة والبنين وهما مُجتمع عائلة الإِنسان وأشد الناس قرباً به وملازمة. وأطنب بتعداد هؤلاء الأقرباء دون أن يقال: يوم يفر المرء من أقرب قرابته مثلاً لإحضار صورة الهول في نفس السامع...