ثم فتح القرآن للكافرين الذين قاتلوا المسلمين التوبة فقال : { فَإِنِ انتهوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
الانتهاء : أصله مطاوع نهى . يقال : نهاه فانتهى ثم توسع فيه فأطلق على الكف عن الشيء ، لأن النهي هو طلب ترك الشيء .
أي : فإن انتهوا عن الكفر وعن مقاتلتكم فكفوا عنهم ولا تتعرضوا لهم فإن الله غفور رحيم . وكل من تاب من كفر أو معصية فشأن الله معه أن يغفر له ويرحمه .
ونظير هذه الآية قوله - تعالى - : { قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } وإنما قلنا فإن انتهوا عن الكفر وعن القتال لأن سياق الحديث عن الكافرين المقاتلين للمؤمنين ، فيكون حمل الانتهاء على الأمرين معا أولى من حمله على القتال فحسب .
( فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم ) . .
والانتهاء الذي يستأهل غفران الله ورحمته ، هو الانتهاء عن الكفر ، لا مجرد الانتهاء عن قتال المسلمين أو فتنتهم عن الدين . فالانتهاء عن قتال المسلمين وفتنتهم قصاراه أن يهادنهم المسلمون . ولكنه لا يؤهل لمغفرة الله ورحمته . فالتلويح بالمغفرة والرحمة هنا يقصد به إطماع الكفار في الإيمان ، لينالوا المغفرة والرحمة بعد الكفر والعدوان .
وما أعظم الإسلام ، وهو يلوح للكفار بالمغفرة والرحمة ، ويسقط عنهم القصاص والدية بمجرد دخولهم في الصف المسلم ، الذي قتلوا منه وفتنوا ، وفعلو بأهله الأفاعيل ! ! !
فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 192 )
والانتهاء في هذه الآية هو الدخول في الإسلام ، لأن غفران الله ورحمته إنما تكون مع ذلك( {[1785]} ) .
قوله : { فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم } أي فإن انتهوا عن قتالكم فلا تقتلوهم ؛ لأن الله غفور رحيم ، فينبعي أن يكون الغفران سنة المؤمنين ، فقوله : { فإن الله غفور رحيم } جواب الشرط وهو إيجاز بديع ؛ إذ كل سامع يعلم أن وصف الله بالمغفرة والرحمة لا يترتب على الانتهاء فيعلم أنه تنبيه لوجوب المغفرة لهم إن انتهوا بموعظة وتأييد للمحذوف ، وهذا من إيجاز الحذف .
والانتهاء : أصله مطاوع نهى يقال : نهاه فانتهى ثم توسع فيه فأطلق على الكف عن عمل أو عن عزم ؛ لأن النهي هو طلب ترك فعل سواء كان الطلب بعد تلبس المطلوب بالفعل أو قبل تلبسه به قال النابغة :
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فإن انتهوا}: عن قتالكم ووحدوا ربهم.
{فإن الله غفور}: لشركهم. {رحيم}: بهم في الإسلام.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
فإن انتهى الكافرون الذي يقاتلونكم عن قتالكم وكفرهم بالله، فتركوا ذلك وتابوا، فإن الله غفور لذنوب من آمن منهم وتاب من شركه، وأناب إلى الله من معاصيه التي سلفت منه وأيامه التي مضت، رحيم به في آخرته بفضله عليه، وإعطائه ما يعطي أهل طاعته من الثواب بإنابته إلى محبته من معصيته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل وجهين: {فإن انتهوا} عن الشرك، وأسلموا يتغمدهم الله برحمته،
ويحتمل {فإن انتهوا} عن بدء القتال، وأسلموا فإن الله يرحمهم، ويغفر ذنوبهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والانتهاء في هذه الآية هو الدخول في الإسلام، لأن غفران الله ورحمته إنما تكون مع ذلك...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
يَعْنِي انْتَهَوْا بِالْإِيمَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُمْ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ، وَيَرْحَمُ كُلًّا مِنْهُمْ بِالْعَفْوِ عَمَّا اجْتَرَمَ. وَهَذَا مَا لَمْ يُؤْسَرْ، فَإِنْ أُسِرَ مَنَعَهُ الْإِسْلَامُ عَن الْقَتْلِ وَبَقِيَ عَلَيْهِ الرِّقُّ، لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، «أَنَّ ثَقِيفًا كَانَتْ حُلَفَاءَ لِبَنِي عَقِيلٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَقِيلٍ وَمَعَهُ نَاقَةٌ لَهُ، فَأَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ؛ بِمَ أَخَذْتَنِي وَأَخَذْت سَابِقَةَ الْحَاجِّ؟ قَالَ: أَخَذْتُك بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِك ثَقِيفٍ، وَقَدْ كَانُوا أَسَرُوا رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُرُّ بِهِ وَهُوَ مَحْبُوسٌ، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، إنِّي مُسْلِمٌ. قَالَ: لَوْ كُنْت قُلْت ذَلِكَ وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَك أَفْلَحْت كُلَّ الْفَلَاحِ، فَفَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمْسَكَ النَّاقَةَ لِنَفْسِهِ}...
المسألة الأولى: قال ابن عباس: فإن انتهوا عن القتال وقال الحسن: فإن انتهوا عن الشرك.
[ف] حجة القول الأول: أن المقصود من الإذن في القتال منع الكفار عن المقاتلة فكان قوله: {فإن انتهوا} محمولا على ترك المقاتلة.
[و] حجة القول الثاني: أن الكافر لا ينال غفران الله ورحمته بترك القتال، بل بترك الكفر...
المسألة الثانية: الانتهاء عن الكفر لا يحصل في الحقيقة إلا بأمرين أحدهما: التوبة والآخر التمسك بالإسلام، وإن كان قد يقال في الظاهر لمن أظهر الشهادتين: إنه انتهى عن الكفر إلا أن ذلك إنما يؤثر في حقن الدم فقط. أما الذي يؤثر في استحقاق الثواب والغفران والحرمة فليس إلا ما ذكرنا...
وإن انتهوا عن قتالكم، فالله غفور لكم في ترككم قتالهم، أو غفور لهمْ بالستر على نسائهم وعلى صبيانهم من كشفكم لهم وسبيكم (إياهم)...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان النزوع بعد الشروع لا سيما حالة الإشراف على الظفر عسراً على الأنفس الأبية والهمم العلية قال: {فإن انتهوا} أي عن القتال ومقدماته، وفيه إشعار بأن طائفة منهم تنتهي فإن العالم بكل شيء لا يعبر بأداة الشك إلا كذلك. ولما كان التقدير: فكفوا عنهم ولا تعرضوا لهم فإن الله قد غفر لهم علله بأمر عام فقال:
{فإن الله} أي المحيط بجميع صفات الكمال {غفور رحيم *} أي له هاتان الصفتان أزلاً وأبداً فكل من تاب فهذا شأنه معه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والانتهاء الذي يستأهل غفران الله ورحمته، هو الانتهاء عن الكفر، لا مجرد الانتهاء عن قتال المسلمين أو فتنتهم عن الدين. فالانتهاء عن قتال المسلمين وفتنتهم قصاراه أن يهادنهم المسلمون. ولكنه لا يؤهل لمغفرة الله ورحمته. فالتلويح بالمغفرة والرحمة هنا يقصد به إطماع الكفار في الإيمان، لينالوا المغفرة والرحمة بعد الكفر والعدوان. وما أعظم الإسلام، وهو يلوح للكفار بالمغفرة والرحمة، ويسقط عنهم القصاص والدية بمجرد دخولهم في الصف المسلم، الذي قتلوا منه وفتنوا، وفعلو بأهله الأفاعيل!!!...
أي ماداموا قد كفّوا عما يصنعون من الفتنة بالدعوة والشرك بالله وزجروا بالدين الآمر فانزجروا عن الكفر، بعدها لا شيء لنا عندهم؛ لأن الله غفور رحيم، فلا يصح أن يشيع في نفوسنا الحقد على ما فعلوه بنا قديما، بل نحتسب ذلك عند الله، وماداموا قد آمنوا فذلك يكفينا...
تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين 1421 هـ :
- تمام عدل الله سبحانه وتعالى، حيث جعل أحكامه، وعقوبته مبنية على عدوان من يستحق هذه العقوبة فقال تعالى: {فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم}...
-...: أخذ الأحكام الشرعية مما تقتضيه الأسماء الحسنى؛ ولها نظائر؛ منها قوله تعالى في المحاربين: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} [المائدة: 34]...
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
من الهداية: -الإسلام يجب ما قبله لقوله تعالى: {فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم}...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ولكن بما أنّ الإسلام في منهجه التربوي للناس يقرن دائماً الإنذار والبشارة معاً، والثواب والعقاب كذلك، لكي يؤثّر في المسلمين تأثيراً سليماً، فلذلك فسح المجال في الآية التالية للعودة والتوبة فقال (فإن انتهوا فإنّ الله غفور رحيم)...