التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{خَٰلِدِينَ فِيهَا لَا يَبۡغُونَ عَنۡهَا حِوَلٗا} (108)

{ خالدين فيها } خلودا أبديا ، حالة كونهم { لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } أى : لا يطلبون تحولا أو انتقالا منها إلى مكان آخر ، لكونها أطيب المنازل وأعلاها .

وفى قوله - تعالى - : { لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } لفتة دقيقة عميقة للإِجابة على ما يعترى النفس البشرية من حب للانتقال والتحول من مكان إلى مكان ، ومن حال إلى حال .

فكأنه - سبحانه - يقول : إن ما جبلت عليه النفوس فى الدنيا من حب للتحول والتنقل . قد زال وانتهى بحلولها فى الآخرة فى الجنة ، فالنفس الإِنسانية عندما تستقر فى الجنة - ولا سيما جنة الفردوس - لا تريد تحولا أو انتقالا عنها ، لأنها المكان الذى لا تشتاق النفوس إلى سواه ، لأنها تجد فيه ما تشتهيه وما تبتغيه ، نسأل الله - تعالى - أن يرزقنا جميعا جنات الفردوس .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{خَٰلِدِينَ فِيهَا لَا يَبۡغُونَ عَنۡهَا حِوَلٗا} (108)

83

ثم هذه اللفتة الدقيقة العميقة إلى طبيعة النفس البشرية وإحساسها بالمتاع في قوله ( لا يبغون عنها حولا ) . . وهي تحتاج منا إلى وقفة بإزاء ما فيها من عمق ودقة . .

إنهم خالدون في جنات الفردوس . . ولكن النفس البشرية حول قلب . تمل الإطراد ، وتسأم البقاء على حال واحدة أو مكان واحد ؛ وإذا اطمأنت على النعيم من التغير والنفاد فقدت حرصها عليه . وإذا مضى على وتيرة واحدة فقد تسأمه . بل قد تنتهي إلى الضيق به ؛ والرغبة في الفرار منه !

هذه هي الفطرة التي فطر عليها الإنسان لحكمة عليا تناسب خلافته للأرض ، ودوره في هذه الخلافة . فهذا الدور يقتضي تحوير الحياة وتطويرها حتى تبلغ الكمال المقدر لها في علم الله . ومن ثم ركز في الفطرة البشرية حب التغيير والتبديل ؛ وحب الكشف والاستطلاع ، وحب الانتقال من حال إلى حال ، ومن مكان إلى مكان ، ومن مشهد إلى مشهد ، ومن نظام إلى نظام . . وذلك كي يندفع الإنسان في طريقه ، يغير في واقع الحياة ، ويكشف عن مجاهل الأرض ، ويبدع في نظم المجتمع وفي أشكال المادة . . ومن وراء التغير والكشف والإبداع ترتقي الحياة وتتطور ؛ وتصل شيئا فشيئا إلى الكمال المقدر لها في علم الله .

نعم إنه مركوز في الفطرة كذلك ألفة القديم ، والتعلق بالمألوف ، والمحافظة على العادة . ولكن ذلك كله بدرجة لا تشل عملية التطور والإبداع ، ولا تعوق الحياة عن الرقي والارتفاع . ولا تنتهي بالأفكار والأوضاع إلى الجمود والركود . إنما هي المقاومة التي تضمن التوازن مع الاندفاع . وكلما اختل التوازن فغلب الجمود في بيئة من البيئات انبعثت الثورة التي تدفع بالعجلة دفعة قوية قد تتجاوز حدود الاعتدال . وخير الفترات هي فترات التعادل بين قوتي الدفع والجذب ، والتوازن بين الدوافع والضوابط في جهاز الحياة .

فأما إذا غلب الركود والجمود . فهو الإعلان بانحسار دوافع الحياة ، وهو الإيذان بالموت في حياة الأفراد والجماعات سواء .

هذه هي الفطرة المناسبة لخلافة الإنسان في الأرض . فأما في الجنة وهي دار الكمال المطلق . . فإن هذه الفطرة لا تقابلها وظيفة . ولو بقيت النفس بفطرة الأرض ، وعاشت في هذا النعيم المقيم الذي لا تخشى عليه النفاد ، ولا تتحول هي عنه ، ولا يتحول هو عنها لانقلب النعيم جحيما لهذه النفس بعد فترة من الزمان ؛ ولأصبحت الجنة سجنا لنزلائها يودون لو يغادرونه فترة ، ولو إلى الجحيم ، ليرضوا نزعة التغيير والتبديل !

ولكن باريء هذه النفس - وهو أعلم بها - يحول رغباتها ، فلا تعود تبغى التحول عن الجنة ، وذلك في مقابل الخلود الذي لا تحول له ولا نفاد !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{خَٰلِدِينَ فِيهَا لَا يَبۡغُونَ عَنۡهَا حِوَلٗا} (108)

وقوله : { خَالِدِينَ فِيهَا } أي : مقيمين ساكنين{[18581]} فيها ، لا يظعنون عنها أبدًا ، { لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا } أي : لا يختارون{[18582]} غيرها ، ولا يحبون سواها ، كما قال الشاعر{[18583]} :

فَحَّلْت سُوَيدا القَلْب لا أنَا بَاغيًا *** سواها ولا عَنْ حُبّها أتَحوّلُ

وفي قوله : { لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا } تنبيه على رغبتهم فيها ، وحبهم لها ، مع أنه قد يتوهم{[18584]} فيمن هو مقيم في المكان دائمًا أنه يسأمه أو يمله ، فأخبر أنهم مع هذا الدوام والخلود السرمدي ، لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولا ولا انتقالا ولا ظعنًا{[18585]} ولا رحلة{[18586]} ولا بدلا{[18587]}


[18581]:في ف، أ: "ماكثين".
[18582]:في ت: "لا تختارون".
[18583]:هو النابغة الجعدي، والبيت في مغني اللبيب (ص265) أ. هـ مستفادا من حاشية ط - الشعب.
[18584]:في أ: "أنه قد توهم".
[18585]:في ت: "ضعفا".
[18586]:في أ: "رحيله".
[18587]:في ت، ف، أ: "بديلا".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{خَٰلِدِينَ فِيهَا لَا يَبۡغُونَ عَنۡهَا حِوَلٗا} (108)

و «الحول » بمعنى التحول ، وقال مجاهد : متحولاً ، ومنه قول الشاعر : [ مجزوء الرجز ]

لكل دولة أجل *** ثم يتاح لها حول{[7909]} . . . وكأنه اسم جمع ، وكأن واحده حوالة ، وفي هذا نظر ، وقال الزجاج عن قوم : هي بمعنى الحيلة في التنقل .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف متكلف .


[7909]:البيت شاهد على أن الحول بمعنى: التحول، قال في اللسان (حول): "والحول: يجري مجرى التحويل، يقال: حولوا عنه تحويلا وحولا، والتحويل مصدر حقيقي من حولت، والحول اسم يقوم مقام المصدر، قال الله عز وجل: {لا يبغون عنها حولا}، أي تحويلا، وقال الزجاج: لا يريدون عنها تحولا، يقال: قد حال من مكانه حولا، كما قالوا في المصادر: صغر صغرا، وعادني حبها عودا".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{خَٰلِدِينَ فِيهَا لَا يَبۡغُونَ عَنۡهَا حِوَلٗا} (108)

قوله : { لا يبغون عنها حولاً } أي ليس بعدما حوته تلك الجنات من ضروب اللّذات والتمتع ما تتطلع النفوس إليه فتود مفارقة ما هي فيه إلى ما هو خير منه ، أي هم يجدون فيها كل ما يخامر أنفسهم من المشتهى .

والحِوَل : مصدر بوزن العِوج والصِغر . وحرف العلة يصحح في هذه الصيغة لكن الغالب فيما كان على هذه الزنة مصدرا التصحيحُ مثل : الحِول ، وفيما كان منها جمعاً الإعلال نحو : الحِيل جمع حِيلة . وهو من ذوات الواو مشتق من التحول .