التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ} (21)

استئناف ، واسم الإشارة هنا تأكيد ثان لاسم الإشارة في قوله : { أولئك يعرضون على ربهم } [ هود : 18 ] .

والموصول في { الذين خسروا أنفسهم } مراد به الجنس المعروف بهذه الصلة ، أي إن بلغكم أنّ قوماً خسروا أنفسهم فهم المفترون على الله كذباً ، وخسارة أنفسهم عدم الانتفاع بها في الاهتداء ، فلما ضلوا فقد خسروها .

وتقدم الكلام على { خسروا أنفسهم } عند قوله تعالى : { الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون } في سورة [ الأنعام : 12 ] .

والضلال : خطأ الطريق المقصود .

و { ما كانوا يفترون } ما كانوا يزعمونه من أن الأصنام تشفع لهم وتدفع عنهم الضر عند الشدائد ، قال تعالى : { فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون } [ الأحقاف : 28 ] .

وفي إسناد الضلال إلى الأصنام تهكم على أصحابها . شبهت أصنامهم بمن سلك طريقاً ليلحق بمن استنجد به فضَلّ في طريقه .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ} (21)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم نعتهم، فقال: {أولئك الذين خسروا أنفسهم}، يعنى غبنوا أنفسهم، {وضل عنهم ما كانوا يفترون}...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين هذه صفتهم، هم الذين غَبَنُوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله. "وَضَلّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ": وبطل كذبهم وإفكهم وفِرْيتهم على الله بادّعائهم له شركاء، فسلك ما كانوا يدعونه إلها من دون الله غير مسلكهم، وأخذ طريقا غير طريقهم، فضلّ عنهم، لأنه سلك بهم إلى جهنم، وصارت آلتهم عدما لا شيء، لأنها كانت في الدنيا حجارة أو خشبا أو نحاسا، أو كان لله وليّا، فسلك به إلى الجنة، وذلك أيضا غير مسلكهم، وذلك أيضا ضلال عنهم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

(أولئك الذين خسروا أنفسهم) في الدنيا والآخرة؛ أما في الدنيا فعبادتهم غير معبودهم الذي كان منه جميع النعم والمنافع، وما لحقهم بذلك من الذل والصغار. وأما في الآخرة فالعذاب والهوان الدائم بدلا عن النعيم الدائم. (وضل عنهم) أي بطل عنهم (ما كانوا يفترون) من قولهم: (هؤلاء شفعاؤنا عند الله) [يونس: 18]، وقولهم: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) الآية [الزمر: 3] وأمثالهما...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

ثم أخبر عنهم بخبر آخر، وهو أنهم "الذين خسروا أنفسهم "من حيث أنهم فعلوا ما يستحقون به العذاب وهلكوا بذلك في خسران أنفسهم، وخسران النفس أعظم الخسران، لأنه ليس عنها عوض، وعن هلاك رأس المال عوض، فسلامة النفس أجل فائدة، وما كان بعده من نفع فهو ربح.

وقوله "وضل عنهم ما كانوا يفترون" قيل في معناه قولان: أحدهما -ذهب عنهم الانتفاع بالافتراء كما كانوا في الدنيا، والثاني- ذهب عنهم الأوثان التي كانوا يأملون بها الانتفاع...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله، فكان خسرانهم في تجارتهم ما لا خسران أعظم منه، وهو أنهم خسروا أنفسهم، {وَضَلَّ عَنْهُم}: وبطل عنهم، وضاع ما اشتروه وهو {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من الآلهة وشفاعتها...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

قوله: {وضل عنهم ما كانوا يفترون} والمعنى أنهم لما باعوا الدين بالدنيا فقد خسروا، لأنهم أعطوا الشريف، ورضوا بأخذ الخسيس، وهذا عين الخسران في الدنيا ثم في الآخرة فهذا الخسيس يضيع ويهلك ولا يبقى منه أثر...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما ثبت أنهم لا سمع ولا بصر، ثبت أنهم لا شيء، فقال: {أولئك} أي البعداء البغضاء {الذين خسروآ أنفسهم} أي بتضييع الفطرة الأولى التي هي سهولة الانقياد للخير وصعوبة الانقياد للشر؛ ولما كان العاجز ربما نفعه من كان يخدمه فيكسبه قوة بعد الضعف ونشاطاً بعد العجز، نفى ذلك بقوله عائداً إلى نفي النفع ممن عذرهم أولاً على أحسن وجه: {وضل عنهم ما كانوا} أي كوناً جبلوا عليه فصاروا لا ينفكون عنه {يفترون} أي يتعمدون كذبه مما ادعوا كونهم آلهة، ولا شك أن من خسر نفسه ومن خسرها من أجله بادعاء أنه شريك لخالقه ونحو ذلك كان أخسر الناس...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هي أفدح الخسارة، فالذي يخسر نفسه لا يفيد شيئا مما كسب غيرها وأولئك خسروا أنفسهم فأضاعوها في الدنيا، لم يحسوا بكرامتهم الآدمية التي تتمثل في الارتفاع عن الدينونة لغير الله من العبيد. كما تتمثل في الارتفاع عن الحياة الدنيا والتطلع -مع المتاع بها- إلى ما هو أرقى وأسمى. وذلك حين كفروا بالآخرة، وحين كذبوا على ربهم غير متوقعين لقاءه. وخسروا أنفسهم في الآخرة بهذا الخزي الذي ينالهم، وبهذا العذاب الذي ينتظرهم...

.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

الإشارة هنا إلى الذين هددوا بعذاب الدنيا وإنه لنازل بهم، وأنذروا بعذاب الآخرة، ومن قبل صدوا عن سبيل الله، وأرادوها ملحفين في إرادتهم أن تكون معوجة، والإشارة إلى الموصوف بصفات تدل على أن هذه الصفات هي سبب الحكم، وهذا الحكم هو الخسران المبين. وأنهم خسروا بضلالهم عقولهم، وخسروا أنفسهم بظلمهم، فالظلم خسارة للنفس، وخسروا أنفسهم بكفرهم باليوم الآخر وعدم رجاء ما عند الله، وبعذاب الدنيا والآخرة، ثم قال تعالى: {وضل عنهم ما كانوا يفترون} أي غابت عنهم الأوثان التي كانوا يحسبونها شفعاء عند الله، وتلفتوا فلم يجدوها والتعبير ب "ضل "يفيد أنهم طلبوها ولم يجدوها، أو توهموا أنها تنفعهم فلم تجدهم، وفي تعبيره سبحانه عن الأوثان بقوله تعالى: {ما كانوا يفترون} إشارة إلى أنها لا وجود لها في ذاتها وإن وجودها كآلهة إنما هو في أوهامهم وافترائهم.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

إذن: فهم خسروا أنفسهم؛ لأنهم بظلم النفس وإعطائها شهوة عاجلة زمنها قليل، أخذوا عذابا آجلا زمنه خالد. وفي هذا ظلم للنفس، وهذه قمة الخيبة، وهذا يدل على اختلال الموازين...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

خسران النفس ومواجهة الهلاك: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ} فقد واجهوا الهلاك الأبديّ بكفرهم، مما جعلهم يخسرون كل شيء بخسارتهم قضيّة المصير، وذلك هو معنى خسارة النفس، لأن الحياة في العذاب، لا تمثل حياة، بل موتاً محتوماً هو أقسى من الموت الطبيعي، الذي يمنح الإنسان الراحة السلبية لعدم الإحساس معه بالألم والعذاب، بينما لا يذوق الإنسان المعذب بالنار طعم الحياة، ولا يملك راحة الميت، كما جاء في قوله تعالى: {ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا} [الأعلى: 13]...