التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{حَتَّىٰٓ إِذَا فَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَابٗا ذَا عَذَابٖ شَدِيدٍ إِذَا هُمۡ فِيهِ مُبۡلِسُونَ} (77)

( إذا ) من قوله { حتى إذا فتحنا عليهم باباً } مثل ( إذا ) التي تقدمت في قوله { حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب } إلخ .

وفتح الباب تمثيل لمفاجأتهم بالعذاب بعد أن كان محجوزاً عنه حسب قوله تعالى : { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } [ الأنفال : 33 ] . وقريب من هذا التمثيل قوله تعالى { ولو دُخلت عليهم من أقطارها } [ الأحزاب : 14 ] .

شبهت هيئة إصابتهم بالعذاب بعد أن كانوا في سلامة وعافية بهيئة ناس في بيت مغلق عليهم ففتح عليهم باب البيت من عدو مكروه ، أو تقول : شبهت هيئة تسليط العذاب عليهم بهيئة فتح باب اختزن فيه العذاب فلما فتح الباب انهال العذاب عليهم . وهذا كما مثل بقوله : { وفار التنور } [ هود : 40 ] وقولهم : طفحت الكأس بأعمال فلان ، وقوله تعالى : { فإن للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم } [ الذاريات : 59 ] وقول علقمة :

فحقّ لشاس من نداكَ ذَنوبُ

ومنه قول الكتّاب : فتح باب كذا على مصراعيه ، تمثيلاً لكثرة ذلك وأفاض عليه سجلاً من الإحسان ، وقول أبي تمام :

من شاعر وقف الكلام ببابه *** واكتن في كنفيْ ذراه المنطق

ووصف { باباً } بكونه { ذا عذاب شديد } دون أن يضاف باب إلى عذاب فيقال : باب عذاب كما قال تعالى : { فصب عليهم ربك سوط عذاب } [ الفجر : 13 ] لأن { ذا عذاب } يفيد من شدة انتساب العذاب إلى الباب ما لا تفيده إضافة باب إلى عذاب ، وليتأتى بذلك وصف ( عذاب ) ب ( شديد ) بخلاف قوله { سوط عذاب } فقد استغني عن وصفه ب ( شديد ) بأنه معمول لفعل ( صب ) الدال على الوفرة .

والمراد بالعذاب الشديد عذاب مستقبل . والأرجح : أن المراد به عذاب السيف يوم بدر . وعن مجاهد : أنه عذاب الجوع .

وقيل : عذاب الآخرة . وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون الباب حقيقة وهو باب من أبواب جهنم كقوله تعالى : { حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها } [ الزمر : 71 ] .

والإبلاس : شدة اليأس من النجاة . يقال : أبلس ، إذا ذل ويئس من التخلص ، وهو ملازم للهمزة ولم يذكروا له فعلاً مجرداً . فالظاهر أنه مشتق من البلاس كسحاب وهو المِسح ، وأن أصل أبلس صار ذا بَلاس . وكان شعار من زهدوا في النعيم . يقال : لبس المسوح ، إذا ترهب .

وهنا انتهت الجمل المعترضة المبتدأة بجملة { ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه } [ المؤمنون : 23 ] وما تفرع عليها من قوله { فذرهم في غمرتهم حتى حين } [ المؤمنون : 54 ] إلى قوله { إذا هم فيه مبلسون } .