التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{إِنۡ حِسَابُهُمۡ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّيۖ لَوۡ تَشۡعُرُونَ} (113)

الحساب حقيقته : العَدّ ، واستعمل في معنى تمحيص الأعمال وتحقيق ظواهرها وبواطنها بحيث لا يفوت منها شيء أو يشتبه .

والمعنى : أن الله هو الذي يتولّى معاملتهم بما أسلفوا وما يعملون وبحقائق أعمالهم . وهذا المقال اقتضاه قوله : { وما علمي بما كانوا يعملون } من شموله جميع أعمالهم الظاهرة والباطنة التي منها ما يحاسبون عليه وهو الأهم عند الرسول المشرّع ، فلذلك لما قال : { وما علمي بما كانوا يعملون } أتبعه بقوله : { إن حسابهم إلا على ربي } على عادة أهل الإرشاد في عدم إهمال فُرصته . وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم " فإذا قالوها ( أي لا إله إلا الله ) عصموا منّي دماءَهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله " ، أي تحقيق مطابقة باطنهم لظاهرهم على الله .

وزاد نوح قوله بياناً بقوله : { وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين } وبيَّن هذا المعنى قوله في الآية الأخرى { الله أعلم بما في أنفسهم } في سورة هود ( 31 ) .

والقصر في قوله : { إن حسابهم إلا على ربي } قصر موصوف على الصفة ، والموصوف هو { حسابهم } والصفة هي { على ربّي } ، لأن المجرور الخبرَ في قوة الوصف ، فإن المجرورات والظروف الواقعة أخباراً تتضمن معنى يتصف به المبتدأ وهو الحصول والثبوت المقدر في الكلام بكائن أو مستقِر كما بيّنه علماء النحو . والتقدير : حسابهم مقصور على الاتصاف بمدلول { على ربّي } . وكذلك قدّره السكاكي في « المفتاح » ، وهو قصر إفراد إضافي ، أي لا يتجاوز الكون على ربي إلى الاتصاف بكونه عليَّ . وهو رد لما تضمنه كلام قومه من مطالبته بإبعاد الذين آمنوا لأنهم لا يستحقون أن يكونوا مساوين لهم في الإيمان الذي طلبه نوح من قومه .

وقوله : { لو تشعرون } تجهيل لهم ورغمٌ لغرورهم وإعجابهم الباطل . وجواب { لو } محذوف دل عليه ما قبلَه . والتقدير : لو تشعرون لشَعَرْتُم بأن حسابهم على الله لا عليَّ فَلَمَا سألتمونيه . ودَل على أنه جهَّلَهم قولُه في سورة هود ( 29 ) { ولكني أراكم قوماً تجهلون }

هذا هو التفسير الذي يطابق نظم الآية ومعناها من غير احتياج إلى زيادات وفروض .

والمفسرون نحَوْا منحى تأويل { الأرذلون } أنهم الموصوفون بالرذالة الدنية ، أي الطعن في صدق إيمان من آمن به ، وجعلوا قوله : { وما علمي بما كانوا يعملون } تبرُّؤاً من الكشف على ضمائرهم وصحة إيمانهم . ولعل الذي حملهم على ذلك هو لفظ الحساب في قوله : { إن حسابهم إلا على ربي } ، فحملوه على الحساب الذي يقع يوم الجزاء وذلك لا يثلج له الصدر .