التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{قَالُواْ سُبۡحَٰنَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَٰلِمِينَ} (29)

وكان جوابهم يتضمن إقراراً بأنه وعظهم فعصوه ودلوا على ذلك بالتسبيح حين ندمِهم على عدم الأخذ بنصيحته فقالوا : { سبحان ربّنا إنا كنا ظالمين } أرادوا إجابة تقريره بإقرار بتسبيح الله عن أن يُعصى أمره في إعطاء حق المساكين فإن من أصول التوبة تدارك ما يمكن تداركه ، واعترافهم بظلم المساكين من أصول التوبة لأنه خبر مستعمل في التندم ، والتسبيح مقدمة الاستغفار من الذنب قال تعالى : { فسبح بحمد ربّك واستغفره إنه كان تواباً } [ النصر : 3 ] .

وجملة { إنا كنا ظالمين } إقرار بالذنب ، والتأكيد لتحقيق الإِقرار والاهتمام به . ويفيد حرفُ ( إنّ ) مع ذلك تعليلاً للتسبيح الذي قبله . w وحذف مفعول { ظالمين } ليعم ظلمهم أنفسهم بما جرَّوه على أنفسهم من سلب النعمة ، وظلم المساكين بمنَعهم من حقهم فى المال .

وجرت حكاية جوابهم على طريقة المحاورة فلم تعطف وهي الطريقة التي نبّهنا عليها عند قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } في سورة البقرة ( 30 ) .

ولما استقرّ حالهم على المشاركة في منع المساكين حقَّهم أخذَ بعضهم يلوم بعضاً على ما فرط من فعلهم : كل يلوم غيره بما كان قد تلبس به في هذا الشأن من ابتكار فكرة منع المساكين ما كان حقاً لهم من حياة الأب ، ومن الممالاة على ذلك ، ومن الاقتناع بتصميم البقية ، ومن تنفيذ جميعهم ذلك العزم الذميم ، فصوَّر قولُه : فأقبلَ بعضهم على بعض يتلاومون } هذه الحالة والتقاذفَ الواقع بينهم بهذا الإِجمال البالغ غاية الإِيجاز ، ألا ترى أن إقبال بعضهم على بعض يصور حالة تشبه المهاجمة والتقريع ، وأن صيغة التلاوم مع حذف متعلق التلاوم تصوّر في ذهن السامع صوراً من لوم بعضهم على بعض .