التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{أَمۡ لَكُمۡ أَيۡمَٰنٌ عَلَيۡنَا بَٰلِغَةٌ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ إِنَّ لَكُمۡ لَمَا تَحۡكُمُونَ} (39)

{ أم } للانتقال إلى دليل آخر وهو نفي أن يكون مستند زعمهم عهداً أخذوه على الله لأنفسهم أن يعاملهم يوم القيامة بما يحكمون به لأنفسهم ، فالاستفهام اللازم تقديره بعد { أم } إنكاري و { بالغة } مؤكَّدة . وأصل البالغة : الواصلة إلى ما يُطلب بها ، وذلك استعارة لمعنى مغلظة ، شبهت بالشيء البالغ إلى نهاية سيره وذلك كقوله تعالى : { قل فللَّه الحجة البالغة } [ الأنعام : 149 ] .

وقوله : { علينا } صفة ثانية ل { أيمان } أي أقسمناها لكم لإِثبات حقكم علينا .

و { إلى يوم القيامة } صفة ثالثة ل { أيمان } ، أي أيمان مُؤبدة لا تَحلَّة منها فحصل من الوصفين أنها عهود مؤكدة ومستمرة طول الدّهر ، فليس يومُ القيامة منتهى الأخذ بتلك الأيمان بل هو تنصيص على التأييد كما في قوله تعالى : { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة } في سورة الأحقاف ( 5 ) .

ويتعلق { إلى يوم القيامة } بالاستقرار الذي في الخبر في قوله : { لكم أيمان } ولا يحسن تعلقه ب { بالغة } تعلق الظرف اللغو لأنه يصير { بالغة } مستعملاً في معنى مشهور قريب من الحقيقة ، ومحملُ { بالغة } على الاستعارة التي ذكرنا أجزل وجملة { إن لكم لَما تحكمون } بيان ل { أيمان } ، أي أيمان بهذا اللفظ .

ومعنى ( ما تحكمون ) تأمرون به دون مراجَعة ، يقال : نزلوا على حكم فلان ، أي لم يعينوا طِلبة خاصة ولكنهم وكلوا تعيين حقهم إلى فلان ، قال خَطاب أو حطان بن المُعلَّى :

أنزلني الدّهر على حكمه *** من شامخٍ عالٍ إلى خفض

أي دون اختيار لي ولا عمل عملته فكأنني حكمت الدّهر فأنزلني من معاقلي وتصرف فيَّ كما شاء .

ومن أقوالهم السائرة مسرى الأمثال « حُكْمُكَ مُسَمَّطاً » ( بضم الميم وفتح السين وفتح الميم الثانية مشددة ) أي لك حكمك نافذاً لا اعتراض عليك فيه . وقال ابن عَثمة :

لك المِرباع منها والصفايا *** وحكْمُك والنشيطةُ والفُضول