التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{فَلَمَّا رَأَوۡهُ زُلۡفَةٗ سِيٓـَٔتۡ وُجُوهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقِيلَ هَٰذَا ٱلَّذِي كُنتُم بِهِۦ تَدَّعُونَ} (27)

( لما ) حرف توقيت ، أي سيئت وجوههم في وقت رؤيتهم الوعد .

والفاء فصيحة لأنها اقتضت جملة محذوفة تقديرها : فحل بهم الوعد فلما رأوهُ الخ ، أي رأوا الموعود به .

وفعل { رأوه } مستعمل في المستقبل ، وجيء به بصيغة الماضي لشبهه بالماضي في تحقق الوقوع مثل { أتى أمر الله } [ النحل : 1 ] لأنه صادر عمن لا إخلاف في أخباره فإن هذا الوعد لم يكن قد حصل حين نزول الآية بمكة سواء أريد بالوعد الوعد بالبعث كما هو مقتضى السياق أم أريد به وعد النصر ، بقرينة قوله : { ويقولون متى هذا الوعد } [ الملك : 25 ] فإنه يقتضي أنهم يقولونه في الحال وأن الوعد غير حاصل حين قولهم لأنهم يسألون عنه ب { متى } .

ونظير هذا الاستعمال قوله تعالى : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } في سورة النساء ( 41 ) وقوله تعالى : { ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء } في سورة النحل ( 89 ) إذ جمع في الآيتين بين فعل { نبعث } مضارعاً وفعل { جئنا } ماضياً .

وأصل المعنى : فإذا يرونه تساء وجوه الذين كفروا الخ ، فعدل عن ذلك إلى صوغ الوعيد في صورة الإخبار عن أمر وقع فجيء بالأفعال الماضية .

وضمير { رأوه } عائد إلى { الوعد } [ الملك : 25 ] بمعنى : رأوا الموعود به .

والزُلفة بضم الزاي : اسم مصدر زَلف إذا قرب وهو من باب تعب . وهذا إخبار بالمصدر للمبالغة ، أي رأوه شديد القرب منهم ، أي أخذ ينالهم .

و { سيئت } بني للنائب ، أي ساء وجوهَهم ذلك الوعد بمعنى الموعود . وأسند حصول السوء إلى الوجوه لتضمينه معنى كَلَحَتْ ، أي لأنه سوء شديد تظهر آثار الانفعال منه على الوجوه ، كما أسند الخوف إلى الأعين في قول الأعشى :

وأقدِم إذا ما أعيُن الناس تَفْرَقُ

{ وقيل } أي لهم .

و { تدَّعون } بتشديد الدال مضارع ادَّعى . وقد حذف مفعوله لظهوره من قوله : { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } [ الملك : 25 ] ، أي تدَّعون أنه لا يكون .

و{ به } متعلق ب { تدعون } لأنه ضمّن معنى « تكذّبون » فإنه إذا ضمّن عامل معنى عامل آخر يحذف معمول العامل المذكور ويذكر معمول ضمنه ليدل المذكور على المحذوف . وذلك ضرب من الإيجاز .

وتقديم المجرور على العامل للاهتمام بإخطاره وللرعاية على الفاصلة . والقائل لهم { هذا الذي كنتم به تدَّعون } ملائكة المحشر أو خَزنَة جهنم ، فعدل عن تعيين القائل ، إذ المقصود المقول دون القائل فحذْف القائل من الإِيجاز .

والقصر المستفاد من تعريف جزأي الإسناد تعريضٌ بهم بأنهم من شدة جحودهم بمنزلة من إذا رأوا الوعد حسبوه شيئاً آخر على نحو قوله تعالى : { فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا } [ الأحقاف : 24 ] .

وقرأ الجمهور { سِيئت } بكسرة السين خالصة ، وقرأه ابن عامر والكسائي بإشمام الكسرة ضمة ، وهما لغتان في فاء كل ثلاثي معتل العين إذا بُني للمجهول .

وقرأ الجمهور { تَدَّعون } بفتح الدال المشددة وقرأه يعقوب بسكون الدال من الدعاء ، أي الذي كنتم تدعون الله أن يصيبكم به تهكماً وعناداً كما قالوا { فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } [ الأنفال : 32 ] .