التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ قَالُواْ سَمِعۡنَا وَهُمۡ لَا يَسۡمَعُونَ} (21)

( إن ) للتمثيل والتنظير في الحسَن والقبيح أثراً عظيماً في حث النفس على التشبه أو التجنب ، وهذا كقوله تعالى : { ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً } [ الأنفال : 47 ] وسيأتي وأصحاب هذه الصلة معروفون عند المؤمنين بمشاهدتهم ، وبإخبار القرآن عنهم ، فقد عرفوا ذلك من المشركين من قبل ، قال تعالى : { وإذا تتلى عليهم آيتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا } [ الأنفال : 31 ] وقال : { ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة } [ الأنعام : 25 ] ، وعن ابن عباس أن المراد بهم نفر من قريش ، وهم بنو عبد الدار بن قصي ، كانوا يقولون : نحن صم بكم عما جاء به محمد ، فلم يسلم منهم إلاّ رجلان مصعب بن عمير وسويبط بن حرملة ، وبقيتهم قتلوا جميعاً في أُحُد ، وكانوا أصحاب اللواء في الجاهلية ، ولكن هؤلاء لم يقولوا سمعنا بل قالوا : نحن صم بكم ، فلا يصح أن يكونوا هم المرادَ بهذه الآية بل المراد طوائف من المشركين ، وقيل : المراد بهم اليهود ، وقد عرفوا بهذه المقالة ، واجهوا بها النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى : { ويقولون سمعنا وعصينا } [ النساء : 46 ] وقيل : أريد المنافقون قال تعالى : { ويقولون طاعةٌ فإذا برزوا من عندك بيّتَ طائفةٌ منهم غير الذي تقول } [ النساء : 81 ] وإنما يقولون سمعنا لقصد إيهام الانتفاع بما سمعوا ، لأن السمع يكنى به عن الانتفاع بالسموع وهو مضمون ما حكي عنهم من قولهم { طاعة } ولذلك نفي عنهم السمع بهذا المعنى بقوله : { وهم لا يسمعون } أي لا ينتفعون بما سمعوه ، فالمعنى هو معنى السمع الذي أرادوه بقولهم : { سمعنا } وهو إيهامهم أنهم مطيعون ، فالواو في قوله : { وهم لا يسمعون } واو الحال .

وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للاهتمام به ليتقرر مفهومه في ذهن السامع فيرسخ اتصافه بمفهوم المسند ، وهو انتفاء السمع عنهم ، على أن المقصود الأهم من قوله : { ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون } هو التعريض بأهل هذه الصلة من الكافرين أو المنافقين لا خشية وقوع المؤمنين في مثل ذلك .

وصيغ فعل { لا يسمعون } بصيغة المضارع لإفادة أنهم مستمرون على عدم السمع ، فلذلك لم يقل وهم لم يسمعوا .