معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَنُيَسِّرُكَ لِلۡيُسۡرَىٰ} (8)

{ ونيسرك لليسرى } قال مقاتل : نهون عليك عمل أهل الجنة -وهو معنى قول ابن عباس- ونيسرك لأن تعمل خيراً . واليسرى : عمل الخير . وقيل : نوفقك للشريعة اليسرى وهي الحنيفية السمحة . وقيل : هو متصل بالكلام الأول معناه : أنه يعلم الجهر مما تقرؤه على جبريل إذا فرغ من التلاوة ، { وما يخفى } ما تقرأ في نفسك مخافة النسيان ، ثم وعده فقال : { ونيسرك لليسرى } يعني : نهون عليك الوحي حتى تحفظه وتعلمه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَنُيَسِّرُكَ لِلۡيُسۡرَىٰ} (8)

والبشرى الثانية الشاملة :

( ونيسرك لليسرى ) . .

بشرى لشخص الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وبشرى لأمته من ورائه . وتقرير لطبيعة هذا الدين ، وحقيقة هذه الدعوة ، ودورها في حياة البشر ، وموضعها في نظام الوجود . . وإن هاتين الكلمتين : ( ونيسرك لليسرى ) ، لتشتملان على حقيقة من أضخم حقائق هذه العقيدة ، وحقائق هذا الوجود أيضا . فهي تصل طبيعة هذا الرسول بطبيعة هذه العقيدة بطبيعة هذا الوجود . الوجود الخارج من يد القدرة في يسر . السائر في طريقه بيسر . المتجه إلى غايته بيسر . فهي انطلاقة من نور ؛ تشير إلى أبعاد وآماد وآفاق من الحقيقة ليس لها حدود . .

إن الذي ييسره الله لليسرى ليمضي في حياته كلها ميسرا . يمضي مع هذا الوجود المتناسق التركيب والحركة والاتجاه . . إلى الله . . فلا يصطدم إلا مع المنحرفين عن خط هذا الوجود الكبير - وهم لا وزن لهم ولا حساب حين يقاسون إلى هذا الوجود الكبير - يمضي في حركة يسيرة لطيفة هينة لينة مع الوجود كله ومع الأحداث والأشياء والأشخاص ، ومع القدر الذي يصرف الأحداث والأشياء والأشخاص . اليسر في يده . واليسر في لسانه . واليسر في خطوه . واليسر في عمله . واليسر في تصوره . واليسر في تفكيره . واليسر في أخذه للأمور . واليسر في علاجه للأمور . اليسر مع نفسه واليسر مع غيره .

وهكذا كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في كل أمره . . ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما كما روت عنه عائشة - رضي الله عنها - وكما قالت عنه : " كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إذا خلا في بيته ألين الناس ، بساما ضحاكا " وفي صحيح البخاري : " كانت الأمة تأخذ بيد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فتنطلق به حيث شاءت " !

وفي هديه [ صلى الله عليه وسلم ] في اللباس والطعام والفراش وغيرها ما يعبر عن اختيار اليسر وقلة التكلف البتة . جاء في زاد المعاد لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن قيم الجوزية ، عن هديه [ صلى الله عليه وسلم ] في " ملابسه " : " كانت له عمامة تسمى السحاب كساها عليا ، وكان يلبسها ويلبس تحتها القلنسوة . وكان يلبس القلنسوة بغير عمامة ، ويلبس العمامة بغير قلنسوة . وكان إذا أعتم أرخى عمامته بين كتفيه - كما رواه مسلم في صحيحه . عن عمر بن حريث قال : رأيت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه . وفي مسلم أيضا عن جابر ذؤابة ، فدل على أن الذؤابة لم يكن يرخيها دائما بين كتفيه . وقد يقال : إنه دخل مكة وعليه أهبة القتال والمغفر على رأسه فلبس في كل موطن ما يناسبه " .

وفي فصل آخر قال : " والصواب أن أفضل الطرق طريق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] التي سنها وأمر بها ورغب فيها وداوم عليها . وهي أن هديه في اللباس أن يلبس ما تيسر من اللباس . من الصوف تارة ، والقطن تارة ، والكتان تارة ، ولبس البرود اليمانية والبرد الأخضر . ولبس الجبة والقباء والقميص والسراويل والإزار والرداء والخف والنعل ، وأرخى الذؤابة من خلفه تارة وتركها تارة . . الخ " . .

وقال في هديه في الطعام : " وكذلك كان هديه [ صلى الله عليه وسلم ] وسيرته في الطعام ، لا يرد موجودا ولا يتكلف مفقودا . فما قرب إليه شيء من الطيبات إلا أكله - إلا أن تعافه نفسه فيتركه من غير تحريم - وما عاب طعاما قط . إن اشتهاه أكله ، وإلا تركه ، كما ترك أكل الضب لما لم يعتده ، ولم يحرمه على الأمة ، بل أكل على مائدته وهو ينظر . وأكل الحلوى والعسل - وكان يحبهما - وأكل الرطب والتمر ، وشرب اللبن خالصا ومشوبا والسويق والعسل بالماء ، وشرب نقيع التمر ، وأكل الخزبرة - وهي حساء يتخذ من اللبن والدقيق - وأكل القثاء بالرطب ، وأكل الأقط ، وأكل التمر بالخبز ، وأكل الخبز بالخل ، وأكل القديد ، وأكل الدباء المطبوخة - وكان يحبها - وأكل المسلوقة ، وأكل الثريد بالسمن ، وأكل الجبن ، وأكل الخبز بالزيت ، وأكل البطيخ بالرطب . وأكل التمر بالزبد - وكان يحبه - ولم يكن يرد طيبا ولا يتكلفه ، بل كان هديه أكل ما تيسر ، فإن أعوزه صبر . . . الخ " .

وقال عن هديه في نومه وانتباهه : " كان ينام على فراشه تارة وعلى النطع تارة ، وعلى الحصير تارة ، وعلى الأرض تارة ، وعلى السرير تارة بين رماله ، وتارة على كساء أسود " . .

وأحاديثه التي تحض على اليسر والسماحة والرفق في تناول الأمور - وفي أولها أمر العقيدة وتكاليفها - كثيرة جدا يصعب تقصيها . من هذا قوله [ صلى الله عليه وسلم ] : " إن هذا الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه " [ أخرجه البخاري ] . . " لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليهم . . . " [ أخرجه أبو داود ] . . " إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى " [ أخرجه البخاري ] . . " يسروا ولا تعسروا " [ أخرجه الشيخان ] .

وفي التعامل : " رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى " [ أخرجه البخاري ] " المؤمن هين لين " [ أخرجه البيهقي ] " المؤمن يألف ويؤلف " [ أخرجه الدارقطني ] . " إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم " [ أخرجه الشيخان ] .

ومن اللمحات العميقة الدلالة كراهيته [ صلى الله عليه وسلم ] للعسر والصعوبة حتى في الأسماء وسمات الوجوه ، مما يوحي بحقيقة فطرته وصنع ربه بها وتيسيره لليسرى انطباعا وتكوينا . . عن سعيد بن المسيب عن أبيه - رضي الله عنه - أنه جاء للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : " ما اسمك ? " قال : حزن [ أي صعب وعر ] قال : " بل أنت سهل " . قال : لا أغير اسما سمانيه أبي ! قال ابن المسيب رحمه الله : " فما زالت فينا حزونة بعد " ! [ أخرجه البخاري ] . . " وعن ابن عمر رضي الله عنهما - أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] غير اسم عاصية وسماها جميلة " [ أخرجه مسلم ] . ومن قوله : " إن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق " [ أخرجه الترمذي ] . .

فهو الحس المرهف الذي يلمح الوعورة والشدة حتى في الأسماء والملامح فينفر منها ، ويميل بها إلى اليسر والهوادة !

وسيرة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كلها صفحات من السماحة واليسر والهوادة واللين والتوفيق إلى اليسر في تناول الأمور جميعا .

وهذا مثل من علاجه للنفوس ، يكشف عن طريقته [ صلى الله عليه وسلم ] وطبيعته :

" جاءه أعرابي يوما يطلب منه شيئا فأعطاه . قال له : أحسنت إليك ? قال الأعرابي : لا . ولا أجملت ! فغضب المسلمون ، وقاموا إليه ؛ فأشار إليهم أن كفوا . ثم دخل منزله ، وأرسل إلى الأعرابي ، وزاده شيئا . ثم قال : أحسنت إليك ? قال : نعم . فجزاك الله من أهل ومن عشيرة خيرا . فقال له النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي شيء من ذلك ، فإذا أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي ، حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك . قال : نعم . فلما كان الغداة جاء ، فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : إن هذا الأعرابي قال ما قال ، فزدناه ، فزعم أنه رضي . أكذلك ? قال الأعرابي : نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة شردت عليه ، فتبعها الناس ، فلم يزيدوها إلا نفورا ، فناداهم صاحب الناقة : خلوا بيني وبين ناقتي ، فإني أرفق بها وأعلم . فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها ، فأخذ لها من قمام الأرض ، فردها هونا هونا ، حتى جاءت واستناخت ، وشد عليها رحلها ، واستوى عليها . وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار " . .

فهكذا كان أخذه [ صلى الله عليه وسلم ] للنفوس الشاردة . بهذه البساطة ، وبهذا اليسر ، وبهذا الرفق وبهذا التوفيق . . والنماذج شتى في سيرته كلها . وهي من التيسير لليسرى كما بشره ربه ووفقه في حياته وفيدعوته وفي أموره جميعا . .

هذه الشخصية الكريمة الحبيبة الميسرة لليسرى كانت كذلك لكي تحمل إلى البشرية هذه الدعوة . فتكون طبيعتها من طبيعتها ، وحقيقتها من حقيقتها ، وتكون كفاء للأمانة الضخمة التي حملتها - بتيسير الله وتوفيقه - على ضخامتها . . . حيث تتحول الرسالة بهذا التيسير من عبء مثقل ، إلى عمل محبب ، ورياضة جميلة ، وفرح وانشراح . .

وفي صفة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ، وصفة وظيفته التي جاء ليؤديها ورد في القرآن الكريم : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين . . ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عن المنكر ، ويحل لهم الطيبات ، ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم )فقد جاء [ صلى الله عليه وسلم ] رحمة للبشرية . جاء ميسرا يضع عن كواهل الناس الأثقال والأغلال التي كتبت عليهم ، حينما شددوا فشدد عليهم .

وفي صفة الرسالة التي حملها ورد : ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر . . ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) . . ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) . . ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم )فقد جاءت هذه الرسالة ميسرة في حدود الطاقة لا تكلف الناس حرجا ولا مشقة . وسرى هذا اليسر في روحها كما سرى في تكاليفها ( فطرة الله التي فطر الناس عليها ) .

وحيثما سار الإنسان مع هذه العقيدة وجد اليسر ومراعاة الطاقة البشرية ، والحالات المختلفة للإنسان ، والظروف التي يصادفها في جميع البيئات والأحوال . . العقيدة ذاتها سهلة التصور . إله واحد ليس كمثله شيء . أبدع كل شيء ، وهداه إلى غاية وجوده . وأرسل رسلا تذكر الناس بغاية وجودهم ، وتردهم إلى الله الذي خلقهم . والتكاليف بعد ذلك كلها تنبثق من هذه العقيدة في تناسق مطلق لا عوج فيه ولا انحراف . وعلى الناس أن يأتوا منها بما في طوقهم بلا حرج ولا مشقة : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه " . . والمنهي عنه لا حرج فيه في حالة الضرورة : إلا ما اضطررتم إليه . . وبين هذه الحدود الواسعة تنحصر جميع التكاليف . . .

ومن ثم التقت طبيعة الرسول بطبيعة الرسالة ، والتقت حقيقة الداعي بحقيقة الدعوة . في هذه السمة الأصيلة البارزة . وكذلك كانت الأمة التي جاءها الرسول الميسر بالرسالة الميسرة . فهي الأمة الوسط ، وهي الأمة المرحومة الحاملة للرحمة . الميسرة الحاملة لليسر . . تتفق فطرتها هذه مع فطرة هذا الوجود الكبير . .

وهذا الوجود بتناسقه وانسياب حركته يمثل صنعة الله من اليسر والانسياب الذي لا تصادم فيه ولا احتكاك . . ملايين الملايين من الأجرام تسبح في فضاء الله وتنساب في مداراتها متناسقة متجاذبة . لا تصطدم ولا تضطرب ولا تميد . . وملايين الملايين من الخلائق الحية تجري بها الحياة إلى غاياتها القريبة والبعيدة في انتظام وفي احكام . وكل منها ميسر لما خلق له ، سائر في طريقه إلى غاية . وملايين الملايين من الحركات والأحداث والأحوال تتجمع وتتفرق وهي ماضية في طريقها كنغمات الفرقة العازفة بشتى الآلات ، لتجتمع كلها في لحن واحد طويل مديد !

إنه التوافق المطلق بين طبيعة الوجود ، وطبيعة الرسالة ، وطبيعة الرسول ، وطبيعة الأمة المسلمة . . صنعة الله الواحد ، وفطرة المبدع الحكيم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَنُيَسِّرُكَ لِلۡيُسۡرَىٰ} (8)

وقوله تعالى : { ونيسرك لليسرى } معناه : نذهب بك نحو الأمور المستحسنة في دنياك وأخراك من النصر والظفر وعلو الرسالة والمنزلة يوم القيامة ، والرفعة في الجنة .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَنُيَسِّرُكَ لِلۡيُسۡرَىٰ} (8)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

ونسهلك يا محمد لعمل الخير ، وهو اليُسرَى، واليُسرَى : هو الفُعلى من اليسر . ...

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

وقيل : هو متصل بالكلام الأول معناه : نعلم الجهر مما تقرأه يا محمد على جبريل إذا فرغ من التلاوة عليك ، وما يخفى ما تقرأه في نفسك مخافة ان تنساه . ثم وعده فقال : { وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى } أي يهون عليك الوحي حتى تحفظه وتعلمه وتعمل به ، وقيل : ويوفقك للشريعة اليسرى ، وهي الحنفية السمحة . ...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

أي نسهل لك العمل المؤدي إلى الجنة، فاليسرى عبارة عن الجنة هنا ، واليسرى الكبرى في تسهيل الخير بها، واليسرى الفعلى من اليسر ، وهو سهولة عمل الخير . ...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

معناه : نذهب بك نحو الأمور المستحسنة في دنياك وأخراك من النصر والظفر وعلو الرسالة والمنزلة يوم القيامة ، والرفعة في الجنة . ...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

......................................................

المسألة الثانية : لسائل أن يسأل فيقول العبارة المعتادة أن يقال : جعل الفعل الفلاني ميسرا لفلان ، ولا يقال : جعل فلان ميسرا للفعل الفلاني، فما الفائدة فيه ههنا؟

( الجواب ) : أن هذه العبارة كما أنها اختيار القرآن في هذا الموضع ، وفي سورة الليل أيضا ، فكذا هي اختيار الرسول في قوله عليه السلام : «اعملوا فكل ميسر لما خلق له » وفيه لطيفة علمية ، وذلك لأن ذلك الفعل في نفسه ماهية ممكنة قابلة للوجود والعدم على السوية ، فما دام القادر يبقى بالنسبة إلى فعلها وتركها على السوية امتنع صدور الفعل عنه ، فإذا ترجح جانب الفاعلية على جانب التاركية ، فحينئذ يحصل الفعل ، فثبت أن الفعل ما لم يجب لم يوجد ، وذلك الرجحان هو المسمى بالتيسير ، فثبت أن الأمر بالتحقيق هو أن الفاعل يصير ميسرا للفعل ، لا أن الفعل يصير ميسرا للفاعل ، فسبحان من له تحت كل كلمة حكمة خفية وسر عجيب يبهر العقول .

المسألة الثالثة : إنما قال : { ونيسرك لليسرى } بنون التعظيم لتكون عظمة المعطى دالة على عظمة العطاء ، نظيره قوله تعالى : { إنا أنزلناه } { إنا نحن نزلنا الذكر } { إنا أعطيناك الكوثر } دلت هذه الآية على أنه سبحانه فتح عليه من أبواب التيسير والتسهيل ما لم يفتحه على أحد غيره ، وكيف لا وقد كان صبيا لا أب له ولا أم له نشأ في قوم جهال ، ثم إنه تعالى جعله في أفعاله وأقواله قدوة للعالمين ، وهديا للخلق أجمعين . ...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

نسهل عليك أفعال الخير وأقواله ، ونشرع لك شرعا سهلا سمحا مستقيما عدلا لا اعوجاج فيه ولا حرج ولا عسر . ...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{ ونيسرك } أي نجعلك أنت مهيأ مسهلاً مليناً موفقاً { لليسرى } أي في حفظ الوحي وتدبره وغير ذلك من الطرائق والحالات كلها التي هي لينة سهلة خفيفة - كما أشار إليه قوله : " كل ميسر لما خلق له " ولهذا لم يقل : ونيسر لك ، لأنه هو مطبوع على حبها . ...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

والبشرى الثانية الشاملة : ( ونيسرك لليسرى ) . . بشرى لشخص الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وبشرى لأمته من ورائه . وتقرير لطبيعة هذا الدين ..... . وإن هاتين الكلمتين : ( ونيسرك لليسرى ) ، لتشتملان على حقيقة من أضخم حقائق هذه العقيدة ، وحقائق هذا الوجود أيضا . فهي تصل طبيعة هذا الرسول بطبيعة هذه العقيدة بطبيعة هذا الوجود .. . إن الذي ييسره الله لليسرى ليمضي في حياته كلها ميسرا . ... اليسر في يده . واليسر في لسانه . واليسر في خطوه . واليسر في عمله . واليسر في تصوره . واليسر في تفكيره . واليسر في أخذه للأمور . واليسر في علاجه للأمور . اليسر مع نفسه واليسر مع غيره . وهكذا كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في كل أمره . . ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما كما روت عنه عائشة - رضي الله عنها ...... وحيثما سار الإنسان مع هذه العقيدة وجد اليسر ومراعاة الطاقة البشرية ، والحالات المختلفة للإنسان ، والظروف التي يصادفها في جميع البيئات والأحوال . . العقيدة ذاتها سهلة التصور . إله واحد ليس كمثله شيء

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والتيسير : جعل العمل يسيراً على عامله . ومفعول فعل التيسير هو الشيء الذي يُجعل يسيراً ، أي غير صعب ويذكر مع المفعول الشيءُ المجعول الفعل يسيراً لأجله مجروراً باللام كقوله تعالى : { ويسر لي أمري } [ طه : 26 ] ....

وقوله : { ونيسرك لليسرى } إن حمل على ظاهر نظم الكلام وهو ما جرى عليه المفسرون . فالتيسير مستعار للتهيئة والتسخير ، أي قوة تمكينه صلى الله عليه وسلم من اليُسرى وتصرفه فيها بما يأمر الله به ، أي نُهيئك للأمور اليسرى في أمر الدّين وعواقبه من تيسير حفظ القرآن لك وتيسير الشريعة التي أرسلتَ بها وتيسير الخير لك في الدنيا والآخرة . وهذه الاستعارة تحسِّنها المشاكلة . ... ومعنى اللام في قوله : { لليسرى } العلةُ ، أي لأجل اليسرى ، أي لقبولها ، ونحوُه قول النبي صلى الله عليه وسلم " كلٌّ مُيَسرٌ لِما خُلق له " وتكون هذه الآية على مهيع قوله تعالى : { فسنيسره لليسرى } وقوله : { فسنيسره للعسرى } في سورة الليل ( 7 10 ) . ويجوز أن يجعل الكلام جارياً على خلاف مقتضى الظاهر بسلوك أسلوب القلب وأن الأصل : ونيسر لك اليسرى ، أي نجعلها سهلة لك فلا تشقّ عليك فيبقى فعل : « نيسرك » على حقيقته ، وإنما خولف عَمله في مفعوله والمجرورِ المتعلق به على عكس الشائع في مفعوله والمجرورِ المتعلق به . ... وفي وصفها ب { اليسرى } إيماء إلى استتباب تيسره لها بما أنها جُعلت يسرى ، فلم يبق إلا حفظه من الموانع التي يشق معها تلقي اليسرى . ... فاشتمل الكلام على تيسيرين : تيسير ما كلف به النبي صلى الله عليه وسلم أي جعله يسيراً مع وفائه بالمقصود منه ، وتيسير النبي صلى الله عليه وسلم للقيام بما كلف به ... والمعنى : وعْد الله إياه بأنه يسره لتلقي أعباء الرسالة فلا تشق عليه ولا تحرجه تطميناً له إذ كان في أول أمر إرساله مشفقاً أن لا يفي بواجباتها . أي أن الله جعله قابلاً لتلقّي الكمالات وعظائم تدبير الأمة التي من شأنها أن تشق على القائمين بأمثالها . ...

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

{ ونيسرك لليسرى } ، وهذه البشرى مزدوجة ، بشارة بما يرافق حياته صلى الله عليه وسلم وحياة أمته من لطف وعناية وتيسير ، وبشارة بما يميز شريعته من سماحة وبعد عن كل حرج أو تعسير ، ...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

( ونيسّرك لليسرى ) . أي ، إخبار النبيّ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بصعوبة الطريق في كافة محطاته ، من تلقي الوحي وحفظه حتى البلاغ والنشر والتعليم والعمل به ، وتطمئنه بالرعاية والعناية الربانية ، بتذليل صعابه من خلال تيسيرها له( صلى الله عليه وآله وسلم ) . ويمكن كذلك أن تكون إشارة الآية إلى أن طبيعة الرسالة الإسلامية والتكاليف التي تضمّنتها ، طبيعة سهلة وسمحة ، خالية من الحرج والمشقّة . وهذا المعنى يعطي شمولية أكثر لمفهوم الآية ، بالرغم من أنّ أكثر المفسّرين قد حددوا الآية ببعد واحد من أبعاد مفهومها . وحقّاً ، فلولا توفيق اللّه وتيسيره للنبيّ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما أمكنه من التغلب على كل تلك المشاكل والصعاب التي واجهته في حياته الرسالية ، وحياته الشريفة تنطق بذلك . فنراه بسيطاً في لباسه ، قنوعاً في طعامه ، متواضعاً في ركوبه ، وتارة ينام على الفراش واُخرى على التراب بل وعلى رمال الصحراء أيضاً . فليس في حياته الشريفة أيّ تكلف ، ولا أدنى تشريف من التشريفات الزائفة الواهية المحيطة بزعماء ورؤساء أيّ قوم أو اُمّة . ...