يخرج من بين الصلب والترائب ، خلق من هذا الماء الذي يجتمع من صلب الرجل وهو عظام ظهره الفقارية ومن ترائب المرأة وهي عظام صدرها العلوية . . ولقد كان هذا سرا مكنونا في علم الله لا يعلمه البشر . حتى كان نصف القرن الأخير حيث اطلع العلم الحديث على هذه الحقيقة بطريقته ؛ وعرف أنه في عظام الظهر الفقارية يتكون ماء الرجل ، وفي عظام الصدر العلوية يتكون ماء المرأة . حيث يلتقيان في قرار مكين فينشأ منهما الإنسان !
والمسافة الهائلة بين المنشأ والمصير . . بين الماء الدافق الذي يخرج من بين الصلب والترائب وبين الإنسان المدرك العاقل المعقد التركيب العضوي والعصبي والعقلي والنفسي . . هذه المسافة الهائلة التي يعبرها الماء الدافق إلى الإنسان الناطق توحي بأن هنالك يدا خارج ذات الإنسان هي التي تدفع بهذا الشيء المائع الذي لا قوام له ولا إرادة ولا قدرة ، في طريق الرحلة الطويلة العجيبة الهائلة ، حتى تنتهي به إلى هذه النهاية الماثلة . وتشي بأن هنالك حافظا من أمر الله يرعى هذه النطفة المجردة من الشكل والعقل ، ومن الإرادة والقدرة ، في رحلتها الطويلة العجيبة . وهي تحوي من العجائب أضعاف ما يعرض للإنسان من العجائب من مولده إلى مماته !
هذه الخلية الواحدة الملقحة لا تكاد ترى بالمجهر ، إذ أن هنالك ملايين منها في الدفقة الواحدة . . هذه الخليقة التي لا قوام لها ولا عقل ولا قدرة ولا إرادة ، تبدأ في الحال بمجرد استقرارها في الرحم في عملية بحث عن الغذاء . حيث تزودها اليد الحافظة بخاصية أكالة تحول بها جدار الرحم حولها إلى بركة من الدم السائل المعد للغذاء الطازج ! وبمجرد اطمئنانها على غذائها تبدأ في عملية جديدة . عملية انقسام مستمرة تنشأ عنها خلايا . . وتعرف هذه الخليقة الساذجة التي لا قوام لها ولا عقل ولا قدرة ولا إرادة . . تعرف ماذا هي فاعلة وماذا هي تريد . . حيث تزودها اليد الحافظة بالهدى والمعرفة والقدرة والإرادة التي تعرف بها الطريق ! إنها مكلفة أن تخصص كل مجموعة من هذه الخلايا الجديدة لبناء ركن من أركان هذه العمارة الهائلة . . عمارة الجسم الإنساني . . فهذه المجموعة تنطلق لتنشئ الهيكل العظمي . وهذه المجموعة تنطلق لتنشئ الجهاز العضلي . وهذه المجموعة تنطلق لتنشئ الجهاز العصبي . وهذه المجموعة تنطلق لتنشئ الجهاز اللمفاوي . . إلى آخر هذه الأركان الأساسية في العمارة الإنسانية ! . . ولكن العمل ليس بمثل هذه البساطة . . إن هنالك تخصصا أدق . فكل عظم من العظام . وكل عضلة من العضلات . وكل عصب من الأعصاب . . لا يشبه الآخر . لأن العمارة دقيقة الصنع ، عجيبة التكوين ، متنوعة الوظائف . . . ومن ثم تتعلم كل مجموعة من الخلايا المنطلقة لبناء ركن من العمارة ، أن تتفرق طوائف متخصصه ، تقوم كل طائفة منها بنوع معين من العمل في الركن المخصص لها من العمارة الكبيرة ! . . إن كل خلية صغيرة تنطلق وهي تعرف طريقها . تعرف إلى أين هي ذاهبة ، وماذا هو مطلوب منها ! ولا تخطئ واحدة منها طريقها في هذه المتاهة الهائلة . فالخلايا المكلفة أن تصنع العين تعرف أن العين ينبغي أن تكون في الوجه ، ولا يجوز أبدا أن تكون في البطن أو القدم أو الذراع . مع أن كل موضع من هذه المواضع يمكن أن تنمو فيه عين . ولو أخذت الخلية الأولى المكلفة بصنع العين وزرعت في أي من هذه المواضع لصنعت عينا هنالك ! ولكنها هي بذاتها حين تنطلق لا تذهب إلا للمكان المخصص للعين في هذا الجهاز الإنساني المعقد . . فمن ترى قال لها : إن هذا الجهاز يحتاج إلى عين في هذا المكان دون سواه ? إنه الله . إنه الحافظ الأعلى الذي يرعاها ويوجهها ويهديها إلى طريقها في المتاهة التي لا هادي فيها إلا الله !
وكل تلك الخلايا فرادى ومجتمعة تعمل في نطاق ترسمه لها مجموعة معينة من الوحدات كامنة فيها . هي وحدات الوراثة ، الحافظة لسجل النوع ولخصائص الأجداد . فخلية العين وهي تنقسم وتتكاثر لكي تكون العين ، تحاول أن تحافظ في أثناء العمل على شكل معين للعين وخصائص محددة تجعلها عين إنسان لا عين أي حيوان آخر . وإنسان لأجداده شكل معين للعين وخصائص معينة . . وأقل انحراف في تصميم هذه العين من ناحية الشكل أو ناحية الخصائص يحيد بها عن الخط المرسوم . فمن ذا الذي أودعها هذه القدرة ? وعلمها ذلك التعليم ? وهي الخلية الساذجة التي لا عقل لها ولا إدراك ، ولا إرادة لها ولا قوة ? إنه الله . علمها ما يعجز الإنسان كله عن تصميمه لو وكل إليه تصميم عين أو جزء من عين . بينما خلية واحدة منه أو عدة خلايا ساذجة ، تقوم بهذا العمل العظيم !
ووراء هذه اللمحة الخاطفة عن صور الرحلة الطويلة العجيبة بين الماء الدافق والإنسان الناطق ، حشود لا تحصى من العجائب والغرائب ، في خصائص الأجهزة والأعضاء ، لا نملك تقصيها في هذه الظلال . . تشهد كلها بالتقدير والتدبير . وتشي باليد الحافظة الهادية المعينة . وتؤكد الحقيقة الأولى التي أقسم عليها بالسماء والطارق . كما تمهد للحقيقة التالية . حقيقة النشأة الآخرة التي لا يصدقها المشركون ، المخاطبون أول مرة بهذه السورة . .
وقوله تعالى : { يخرج من بين الصلب والترائب } ، قال قتادة والحسن وغيره : معناه من بين صلب كل واحد من الرجل والمرأة وترائبه ، وقال سفيان وقتادة أيضاً وجماعة : من بين صلب الرجل وترائب المرأة ، والضمير في { يخرج } يحتمل أن يكون للإنسان ، ويحتمل أن يكون للماء ، وقرأ الجمهور : «الصلب » ، وقرأ أهل مكة وعيسى : «الصلُب » بضم اللام على الجميع ، والتريبة من الإنسان : ما بين الترقوة إلى الثدي ، وقال أبو عبيدة ، معلق الحلي على الصدر ، وجمع ذلك : ترائب ومنه قول الشاعر [ المثقب العبدي ] : [ الوافر ]
ومن ذهب يسن على تريب . . . كلوان العاج ليس بذي غضون{[11737]}
ترائبها مصقولة كالسجنجل{[11738]} . . . فجمع التريبة وما حولها فجعل ذلك ترائب ، وقال مكي عن ابن عباس : إن الترب أطراف المرء ورجلاه ويداه وعيناه ، وقال معمر : { الترائب } ، جمع تربية ، وهي عصارة القلب ، ومنه يكون الولد ، وفي هذه الأقوال تحكم على اللغة ، وقال ابن عباس : { الترائب } موضع القلادة ، وقال أيضاً : هي ما بين ثدي المرأة ، وقال ابن جبير : هي أضلاع الرجل التي أسفل الصلب ، وقال مجاهد : هي الصدر ، وقال هي التراقي ، وقيل هي ما بين المنكبين والصدر .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"يَخْرُجُ مِنْ بَينِ الصّلْبِ والتّرَائِبِ "يقول: يخرج من بين ذلك، ومعنى الكلام منهما، كما يقال: سيخرج من بين هذين الشيئين خير كثير، بمعنى: يخرج منهما.
واختلف أهل التأويل في معنى الترائب وموضعها؛ فقال بعضهم: الترائب: موضع القِلادة من صدر المرأة... عن ابن عباس، قوله: "يَخْرُجُ مِنْ بَينِ الصّلْبِ والترائِبِ" يقول: من بين ثدي المرأة... [عن] عكرِمة يقول: "يَخْرُجُ مِنْ بَين الصّلْبِ والتّرَائِبِ" قال: صُلْب الرجل، وترائب المرأة... عن سعيد بن جُبير، قال: الترائب: الصدر...
وقال آخرون: الترائب: ما بين المَنْكِبين والصدر...
وقال آخرون: هو اليدان والرجلان والعينان...
وقال آخرون: معنى ذلك، أنه يخرج من بين صلب الرجل ونحره...
وقال آخرون: هي الأضلاع التي أسفل الصلب...
والصواب من القول في ذلك عندنا: قول من قال: هو موضع القِلادة من المرأة، حيث تقع عليه من صدرها، لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب، وبه جاءت أشعارهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وفي إخراج الماء من الصلب والترائب لطف من الله تعالى؛ لأنه لو اجتهد الخلائق باستخراجه من بين ما ذكر بحيلهم وقواهم ووضعه في الرحم لم يقدروا عليه. ثم الله بلطفه وضع هذه الشهوة في ما بين الخلق، واستخرج بها الماء من بين الصلب والترائب، لا أن يكون أحد يملك إخراجها بالأسباب والحيل كما وضع فيهم شهوة الأكل والشراب في كل جارحة من جوارح الأكل باللطف...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(يخرج من بين الصلب والترائب) فالصلب هو الظهر، والترائب جمع تريبة وهو موضع القلادة من صدر المرأة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والضمير في {يخرج} يحتمل أن يكون للإنسان، ويحتمل أن يكون للماء...
والتريبة من الإنسان: ما بين الترقوة إلى الثدي...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يخرج} وبعض بإثبات الجار فأفهم الخروج عن مقره بقوله: {من بين الصلب} أي صلب الرجل وهو عظم مجتمع من عظام مفلكة أحكم ربطها غاية الإحكام من لدن الكاهل إلى عجب الذنب {والترائب} أي ترائب المرأة وهي عظام الصدر حيث تكون القلادة، وصوبه ابن جرير، أو ما ولي الترقوتين منه، أو ما بين الثديين والترقوتين...
وقال الملوي: فالذي أخرجه من ظروف عظام الصلب والترائب إلى أن صيره في محله من الأنثيين إلى أن- دفق واعتنى بعد ذلك بنقله من خلق إلى خلق بعد كل أربعين يوماً إلى أن صيره إنساناً يعقل ويتكلم ويبني القصور، ويهدم الصخور، قادر على بعثه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
خلق من هذا الماء الذي يجتمع من صلب الرجل وهو عظام ظهره الفقارية ومن ترائب المرأة وهي عظام صدرها العلوية.. ولقد كان هذا سرا مكنونا في علم الله لا يعلمه البشر. حتى كان نصف القرن الأخير حيث اطلع العلم الحديث على هذه الحقيقة بطريقته؛ وعرف أنه في عظام الظهر الفقارية يتكون ماء الرجل، وفي عظام الصدر العلوية يتكون ماء المرأة. حيث يلتقيان في قرار مكين فينشأ منهما الإنسان!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وأُطنب في وصف هذا الماء الدافق لإِدماج التعليم والعبرة بدقائق التكوين ليستيقظ الجاهل الكافر ويزداد المؤمن علماً ويقيناً. ووُصف أنه يخرج من {بين الصلب والترائب} لأن الناس لا يتفطنون لذلك. والخروج مستعمل في ابتداء التنقل من مكان إلى مكان ولو بدون بروز فإن بروز هذا الماء لا يكون من بين الصلب والترائب...
والترائب تضاف إلى الرجل وإلى المرأة، ولكن أكثر وقوعها في كلامهم في أوصاف النساء لعدم احتياجهم إلى وصفها في الرجال. وقوله: {يخرج من بين الصلب والترائب} الضمير عائد إلى {ماء دافق} وهو المتبادر، فتكون جملة {يخرج} حالاً من {ماء دافق} أي يمر ذلك الماء بعد أن يفرز من بين صلب الرجل وترائبه. وبهذا قال سفيان والحسن، أي أن أصل تكَوُّن ذلك الماء وتنقله من بين الصلب والترائب، وليس المعنى أنه يمر بين الصلب والترائب إذ لا يتصور ممر بين الصلب والترائب لأن الذي بينهما هو ما يحويه باطن الصدر والضلوع من قلب ورِئَتَيْن. فجعل الإِنسان مخلوقاً من ماء الرجل لأنه لا يتكوّن جسم الإنسان في رحم المرأة إلا بعد أن يخالطها ماء الرجل فإذا اختلط ماء الرجل بما يُسمى ماء المرأة وهو شيء رطب كالماء يحتوي على بُوَيضات دقيقة يثبت منها ما يتكوّن منه الجنين ويُطرح ما عداه. وهذا مخاطبة للناس بما يعرفون يومئذ بكلام مجمل مع التنبيه على أن خلق الإِنسان من ماء الرجل وماءِ المرأة بذكر الترائب لأن الأشهر أنها لا تطلق إلا على ما بين ثديي المرأة...