هنا اعترض أهل القرية عليهم بالاعتراضات المكرورة في تاريخ الرسل والرسالات . .
( قالوا : ما أنتم إلا بشر مثلنا ) . . ( وما أنزل الرحمن من شيء ) . . ( إن أنتم إلا تكذبون ) . .
وهذا الاعتراض المتكرر على بشرية الرسل تبدو فيه سذاجة التصور والإدراك ، كما يبدو فيه الجهل بوظيفة الرسول . قد كانوا يتوقعون دائماً أن يكون هناك سر غامض في شخصية الرسول وحياته تكمن وراءه الأوهام والأساطير . . أليس رسول السماء إلى الأرض فكيف لا تحيط به الأوهام والأساطير ? كيف يكون شخصية مكشوفة بسيطة لا أسرار فيها ولا ألغاز حولها ? ! شخصية بشرية عادية من الشخصيات التي تمتلىء بها الأسواق والبيوت ? !
وهذه هي سذاجة التصور والتفكير . فالأسرار والألغاز ليست صفة ملازمة للنبوة والرسالة . وليست في هذه الصورة الساذجة الطفولية . وإن هنالك لسراً هائلاً ضخماً ، ولكنه يتمثل في الحقيقة البسيطة الواقعة . حقيقة إيداع إنسان من هؤلاء البشر الاستعداد اللدني الذي يتلقى به وحي السماء ، حين يختاره الله لتلقي هذا الوحي العجيب . وهو أعجب من أن يكون الرسول ملكاً كما كانوا يقترحون !
والرسالة منهج إلهي تعيشه البشرية . وحياة الرسول هي النموذج الواقعي للحياة وفق ذلك المنهج الإلهي . النموذج الذي يدعو قومه إلى الاقتداء به . وهم بشر . فلا بد أن يكون رسولهم من البشر ليحقق نموذجاً من الحياة يملكون هم أن يقلدوه .
ومن ثم كانت حياة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] معروضة لأنظار أمته . وسجل القرآن - كتاب الله الثابت - المعالم الرئيسية في هذه الحياة بأصغر تفصيلاتها وأحداثها ، بوصفها تلك الصفحة المعروضة لأنظار أمته على مدار السنين والقرون . ومن هذه التفصيلات حياته المنزلية والشخصية . حتى خطرات قلبه سجلها القرآن في بعض الأحيان ، لتطلع عليها الأجيال وترى فيها قلب ذلك النبي الإنسان .
ولكن هذه الحقيقة الواضحة القريبة هي التي ظلت موضع الاعتراض من بني الإنسان !
ولقد قال أهل تلك القرية لرسلهم الثلاثة : ( ما أنتم إلا بشر مثلنا ) . . وقصدوا أنكم لستم برسل . . ( وما أنزل الرحمن من شيء ) . . مما تدعون أنه نزله عليكم من الوحي والأمر بأن تدعونا إليه . ( إن أنتم إلا تكذبون ) . . وتدعون أنكم مرسلون !
كان أهل ( أنطاكية ) والمدن المجاورة لها خليطاً من اليهود وعبدة الأصنام من اليونان ، فقوله : { ما أنتم إلا بشر مثلنا } صالح لأن يصدر من عبدة الأوثان وهو ظاهر لظنهم أن الآلهة لا تبعث الرسل ولا تُوحي إلى أحد ، ولذلك جاء في سفر أعمال الرسل أن بعض اليونان من أهل مدينة ( لسترة ) رأوا معجزة من بولس النبي فقالوا بلسان يوناني : إن الآلهة تشبهوا بالناس ونزلوا إلينا فكانوا يدعون ( برنابا ) ( زفسَ ) . أي كوكب المشتري ، و ( بولسَ ) ( هُرمسَ ) أي كوكب عطارد وجاءهما كاهن ( زفس ) بثيران ليذبحها لهما ، وأكاليل ليضعها عليهما ، فلما رأى ذلك ( بولس وبرنابا ) مزّقا ثيابهما وصرخا : « نحن بشر مثلكم نعظكم أن ترجعوا عن هذه الأباطيل إلى الإِله الحي الذي خلق السماوات والأرض » الخ .
وصالح لأن يصدر من اليهود الذين لم يتنصّروا لأن ذلك القول يقتضي أنهما وبقية اليهود سواء وأن لا فضل لهما بما يزعمون من النبوءة ويقتضي إنكار أن يكون الله أنزل شيئاً ، أي بعد التوراة . فمن إعجاز القرآن جمع مقالة الفريقين في هاتين الجملتين .
واختيار وصف { الرحمان } في حكاية قول الكفرة { وما أنزل الرحمان من شيء } لكونه صالحاً لعقيدة الفريقين لأن اليونان لا يعرفون اسم الله ، وربُّ الأرباب عندهم هو ( زفس ) وهو مصدر الرحمة في اعتقادهم ، واليهود كانوا يتجنبون النطق باسم الله الذي هو في لغتهم ( يَهْوَه ) فيعوضونه بالصفات .
والاستثناء في { إن أنتم إلا تكذبون } استفهام مفرغ من أخبار محذوفة فجملة { تكذبون } في موضع الخبر عن ضمير { أنتم } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.