ثم يمضي السياق القرآني يكشف عن الحكمة الكامنة وراء الأحداث ، في تربية الأمة المسلمة وتمحيصها وإعدادها لدورها الأعلى ، ولتكون أداة من أدوات قدره في محق الكافرين ، وستارا لقدرته في هلاك المكذبين :
( وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ) . .
والتمحيص درجة بعد الفرز والتمييز . التمحيص عملية تتم في داخل النفس ، وفي مكنون الضمير . . إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية ، وتسليط الضوء على هذه المكنونات . تمهيدا لإخراج الدخل والدغل والأوشاب ، وتركها نقية واضحة مستقرة على الحق ، بلا غبش ولا ضباب . .
وكثيرا ما يجهل الإنسان نفسه ، ومخابئها ودروبها ومنحنياتها . وكثيرا ما يجهل حقيقة ضعفها وقوتها ، وحقيقة ما استكن فيها من رواسب ، لا تظهر إلا بمثير !
وفي هذا التمحيص الذي يتولاه الله - سبحانه - بمداولة الأيام بين الناس بين الشدة والرخاء ، يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه قبل هذا المحك المرير : محك الأحداث والتجارب والمواقف العملية الواقعية .
ولقد يظن الإنسان في نفسه القدرة والشجاعة والتجرد والخلاص من الشح والحرص . . ثم إذا هو يكشف - على ضوء التجربة العملية ، وفي مواجهة الأحداث الواقعية - إن في نفسه عقابيل لم تمحص . وأنه لم يتهيأ لمثل هذا المستوى من الضغوط ! ومن الخير أن يعلم هذا من نفسه ، ليعاود المحاولة في سبكها من جديد ، على مستوى الضغوط التي تقتضيها طبيعة هذه الدعوة ، وعلى مستوى التكاليف التي تقتضيها هذه العقيدة !
والله - سبحانه - كان يربي هذه الجماعة المختارة لقيادة البشرية ، وكان يريد بها أمرا في هذه الأرض . فمحصها هذا التمحيص ، الذي تكشفت عنه الأحداث في أحد ، لترتفع إلى مستوى الدور المقدر لها ، وليتحقق على يديها قدر الله الذي ناطه بها :
تحقيقا لسنته في دمغ الباطل بالحق متى استعلن الحق ، وخلص من الشوائب بالتمحيص . .
{ وَلِيُمَحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ }
يعني تعالى ذكره بقوله : { وَلِيُمَحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا } : وليختبر الله الذين صدقوا الله ورسوله فيبتليهم بإدالة المشركين منهم حتى يتبين المؤمن منهم المخلص الصحيح الإيمان من المنافق . كما :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله ، في قوله : { وَلِيُمَحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا } قال : ليبتلي .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : { وَلِيُمَحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا } قال : ليمحص الله المؤمن حتى يصدق .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَلِيُمَحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا } يقول : يبتلي المؤمنين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : { وَلِيُمَحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا } قال : يبتليهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَلِيُمَحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا ويَمْحَقَ الكافِرينَ } فكان تمحيصا للمؤمنين ، ومحقا للكافرين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَلِيُمَحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا } : أي يختبر الذين آمنوا حتى يخلصهم بالبلاء الذي نزل بهم ، وكيف صبرهم ويقينهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَلِيُمَحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا ويَمْحَقَ الكافِرينَ } قال : يمحق من مُحق في الدنيا ، وكان بقية من يمحق في الاَخرة في النار .
وأما قوله : { ويَمْحَقَ الكافِرينَ } فإنه يعني به : أنه ينقصهم ويفنيهم ، يقال منه : محق فلان هذا الطعام : إذا نقصه أو أفناه ، يمحقه محقا ، ومنه قيل لمحاق القمر : مُحاق ، وذلك نقصانه وفناؤه . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : { ويَمْحَقَ الكافِرينَ } قال : ينقصهم .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : { ويَمْحَقَ الكافِرينَ } قال : يمحق الكافر حتى يكذبه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { ويَمْحَقَ الكافِرينَ } أي يبطل من المنافقين قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، حتى يظهر منهم كفرهم الذي يستترون به منكم .
التَّمحيص : التنقية والتخليص من العيوب .
والمحق : الإهلاك . وقد جعل الله تعالى مسّ القرح المؤمنين والكفار فاعلاً فِعلاً واحداً : هو فضيلة في جانب المؤمنين ، ورزّية في جانب الكافرين ، فجعله للمؤمنين تمحيصاً وزيادة في تزكية أنفسهم ، واعتباراً بمواعظ الله تعالى ، وجعله للكافرين هلاكاً ، لأنّ ما أصابهم في بدر تناسوه ، وما انتصروه في أحُد يزيدهم ثقة بأنفسهم فيتواكلون ؛ يظنون المسلمين قد ذهب بأسهم ، على أنّ المؤمنين في ازدياد ، فلا ينقصهم من قُتل منهم ، والكفّار في تناقض فمن ذهب منهم نفد . وكذلك شأن المواعظ والنذر والعبر قد تكسب بعض النُّفوس كمالاً وبَعْضها نقصاً قال أبو الطيب :
فحُبّ الجبان العيش أورده التُّقى *** وحبّ الشجاع العيش أورده الحربا
ويختلف القصدَان والفعل واحد *** إلى أن نَرى إحسانَ هذا لنا ذنبــا
وقال تعالى : { وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم } [ التوبة : 124 ، 125 ] ، وقال : { وننزّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً } [ الإسراء : 82 ] وهذا من بديع تقدير الله تعالى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.