جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بقوله: {وَلِيُمَحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا}: وليختبر الله الذين صدقوا الله ورسوله فيبتليهم بإدالة المشركين منهم حتى يتبين المؤمن منهم المخلص الصحيح الإيمان من المنافق... وأما قوله: {ويَمْحَقَ الكافِرينَ} فإنه يعني به: أنه ينقصهم ويفنيهم، يقال منه: محق فلان هذا الطعام: إذا نقصه أو أفناه... ومنه قيل لمحاق القمر: مُحاق، وذلك نقصانه وفناؤه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله تعالى: {ويمحق الكافرين} أي يهلكهم ويستأصلهم...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ}: يعني يطهّرهم من ذنوبهم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قيل في تمحيص المؤمنين بالمداولة قولان: أحدهما -لما في تخليتهم مع تمكين الكافرين منهم من التعريض للصبر الذي يستحقون به عظيم الأجر، ويحط كثيرا من الذنوب. الثاني- لما في ذلك من اللطف الذي يعصم من اقتراف المعصية.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
اختبارات الغيب سبك للعبد، فباختلاف الأطوار يخلصه من المشائب، فيصير كالذهب الخالص لا خَبَثَ فيه، كذلك يصفو عن العلل فيتخلص لله...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والتمحيص: التطهير والتصفية {وَيَمْحَقَ الكافرين} ويهلكهم. يعني: إن كانت الدولة على المؤمنين فللتمييز والاستشهاد والتمحيص، وغير ذلك مما هو أصلح لهم. وإن كانت على الكافرين، فلمحقهم ومحو آثارهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
فمعنى الآية أن الله يمحص المؤمنين إذا أدال عليهم، بأنه ينقي المتشهدين من ذنوبهم، وينقي الأحياء من منافقيهم إذ يميزهم، وأنه {يمحق الكافرين} إذا نصر عليهم أي ينقصهم، والمحق: الذهاب شيئاً شيئاً، ومنه محاق القمر.
فقابل تمحيص المؤمنين بمحق الكافرين، لأن تمحيص هؤلاء بإهلاك ذنوبهم نظير محق أولئك بإهلاك أنفسهم، وهذه مقابلة لطيفة في المعنى. والأقرب أن المراد بالكافرين ههنا طائفة مخصوصة منهم وهم الذين حاربوا الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وإنما قلنا ذلك لعلمنا بأنه تعالى لم يمحق كل الكفار، بل كثير منهم بقي على كفره، والله أعلم.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} أي: يكفر عنهم من ذنوبهم، إن كان لهم ذنوب، وإلا رُفعَ لهم في درجاتهم بحسب ما أصيبوا به، وقوله: {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} أي: فإنهم إذا ظفروا بَغَوا وبَطروا فيكون ذلك سَبَبَ دمارهم وهلاكهم ومَحْقهم وفنائهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما قدم التنفير من الظلم دلالة على الاهتمام به، أكمل ثمرات المداولة بقوله: {وليمحص}: أي وليطهر {الله} أي ذو الجلال والإكرام {الذين أمنوا} أي إن أصيبوا، ويجعل مصيبتهم سبباً لقوتهم. {ويمحق الكافرين}: أي شيئاً فشيئاً في تلك الحالتين بما يلحقهم من الرجس، أما إذا كانت لهم فبالنقص بالقوة بالبطر الموجب للعكس، وأما إذا كانت عليهم فبالنقص بالفعل الموجب للقطع بالنار.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
قوله تعالى: {وَلِيُمَحّصَ الله الذين آمَنُوا} أي ليُصَفِّيَهم ويُطهرَهم من الذنوب، عطفٌ على يتخذ، وتكريرُ اللامِ لتذكير التعليلِ لوقوع الفصلِ بينهما بالاعتراض، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ لإبراز مزيدِ الاعتناءِ بشأن التمحيصِ، وهذه الأمورُ الثلاثة عللٌ للمداولة المعهودةِ باعتبار كونِها على المؤمنين قُدِّمت في الذكر لأنها المحتاجةُ إلى البيان. ولعل تأخيرَ العلةِ الأخيرةِ عن الاعتراض لئلا يُتوَهَّمَ اندراجُ المذنبين في الظالمين، أو ليقترِنَ بقوله عز وجل: {وَيَمْحَقَ الكافرين} فإن التمحيصَ فيه محوُ الآثارِ وإزالةُ الأوضارِ كما أن المَحْقَ عبارةٌ عن النقض والإذهابِ.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وأما محق الكافرين بالشدائد، فليس معناه فناؤهم وهلاكهم، وإنما هو اليأس يسطو عليهم، وفقد الرجاء يذهب بعزائمهم لعدم الإيمان الذي يثبت قلوب أصحابه في الشدائد حتى يذهب ما كان قد بقي من نور الفضيلة في نفوسهم، فلا تبقى لهم شجاعة ولا بأس ولا شيء من عزة النفس، فيكون أحدهم كالهلاك في المحاق لا نور له، بل يكون وجوده كالعدم، لأنه لا أثر له ولا فائدة فيه، فذلك محقه إذا غُلب على أمره وإذا هو انتصر طغى وتجبر وبغى وظلم، وذلك محق معنوي تكون عاقبته المحق الصوري كذلك لا يثبت للكافرين المبطلين وجود مع المؤمنين الصادقين، وإنما يبقون ظاهرين إذا لم يظهر من أهل الحق والعدل من ينازعهم ويقاوم باطلهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يمضي السياق القرآني يكشف عن الحكمة الكامنة وراء الأحداث، في تربية الأمة المسلمة وتمحيصها وإعدادها لدورها الأعلى، ولتكون أداة من أدوات قدره في محق الكافرين، وستارا لقدرته في هلاك المكذبين: (وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين).. والتمحيص درجة بعد الفرز والتمييز. التمحيص عملية تتم في داخل النفس، وفي مكنون الضمير.. إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية، وتسليط الضوء على هذه المكنونات. تمهيدا لإخراج الدخل والدغل والأوشاب، وتركها نقية واضحة مستقرة على الحق، بلا غبش ولا ضباب.. وكثيرا ما يجهل الإنسان نفسه، ومخابئها ودروبها ومنحنياتها. وكثيرا ما يجهل حقيقة ضعفها وقوتها، وحقيقة ما استكن فيها من رواسب، لا تظهر إلا بمثير! وفي هذا التمحيص الذي يتولاه الله -سبحانه- بمداولة الأيام بين الناس بين الشدة والرخاء، يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه قبل هذا المحك المرير: محك الأحداث والتجارب والمواقف العملية الواقعية. ولقد يظن الإنسان في نفسه القدرة والشجاعة والتجرد والخلاص من الشح والحرص.. ثم إذا هو يكشف -على ضوء التجربة العملية، وفي مواجهة الأحداث الواقعية- إن في نفسه عقابيل لم تمحص. وأنه لم يتهيأ لمثل هذا المستوى من الضغوط! ومن الخير أن يعلم هذا من نفسه، ليعاود المحاولة في سبكها من جديد، على مستوى الضغوط التي تقتضيها طبيعة هذه الدعوة، وعلى مستوى التكاليف التي تقتضيها هذه العقيدة! والله -سبحانه- كان يربي هذه الجماعة المختارة لقيادة البشرية، وكان يريد بها أمرا في هذه الأرض. فمحصها هذا التمحيص، الذي تكشفت عنه الأحداث في أحد، لترتفع إلى مستوى الدور المقدر لها، وليتحقق على يديها قدر الله الذي ناطه بها: (ويمحق الكافرين).. تحقيقا لسنته في دمغ الباطل بالحق متى استعلن الحق، وخلص من الشوائب بالتمحيص..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقد جعل الله تعالى مسّ القرح المؤمنين والكفار فاعلاً فِعلاً واحداً: هو فضيلة في جانب المؤمنين، ورزّية في جانب الكافرين، فجعله للمؤمنين تمحيصاً وزيادة في تزكية أنفسهم، واعتباراً بمواعظ الله تعالى، وجعله للكافرين هلاكاً، لأنّ ما أصابهم في بدر تناسوه، وما انتصروه في أحُد يزيدهم ثقة بأنفسهم فيتواكلون؛ يظنون المسلمين قد ذهب بأسهم، على أنّ المؤمنين في ازدياد، فلا ينقصهم من قُتل منهم، والكفّار في تناقض فمن ذهب منهم نفد. وكذلك شأن المواعظ والنذر والعبر قد تكسب بعض النُّفوس كمالاً وبَعْضها نقصاً...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 137]
ومن هنا ينتقل كتاب الله إلى الحديث بالخصوص عن يوم أحد، وما جلبت فيه بعض المواقف من متاعب للمسلمين، خصوصا ما وقع فيه من أذى المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبين بالأخص أسباب الهزيمة في هذا اليوم، كما يبين قبل ذلك أسباب النصر في غزوة بدر. ويبتدئ الحديث في هذا الموضوع الخطير بتقرير مبدأ أساسي لا يختلف، هو أن لله سننا ثابتة في المجتمع تسير الحياة على مقتضاها مهما اختلفت القرون والأجيال. وفي طليعة هذه السنن والقوانين الثابتة سنن النصر وسنن الهزيمة، أي مختلف العوامل والأسباب التي تؤدي إلى كل منهما، ثم تقرير مبدأ آخر هو أن النصر غير مضمون ولا محتوم في كل معركة، كما أن الهزيمة غير لازمة ولا منتظرة في كل مناسبة، بل إن معركة الحياة سلسلة من الانتصارات والهزائم، والعاقبة والغلبة في النهاية إنما هي لأهل الحق...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 139]
[ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون]، لأنَّ الوهن والحزن يعبّران عن انسحاقٍ داخلي أمام الهزيمة، في انطواءٍ روحيّ يسقط معه الشعور بالكرامة والإحساس بالعزّة. إنَّ اللّه يستثير في المؤمنين انطلاقة الإيمان ودلالاته في موقع المؤمن من الحياة، فهو الأعلى بالمقياس الحقيقي للأشياء، لأنَّ ارتباطه باللّه يُشعره بالقوّة العليا، وانطلاقه من قاعدة الإيمان يوحي له بالفكرة العليا، وتحرّكه في خدمة الحياة يشدّه إلى الأعلى في أهداف الحركة... وبذلك يتحوّل الإيمان إلى عنصر قوّةٍ يدفعه إلى الاستعلاء على كلّ عوامل الضعف والخوف والحزن، ليدعوه إلى الإحساس بالقوّة والفرح الروحي بالألم والتضحية في طريق الجهاد. ولعلّ من الواضح أنَّ الآية الكريمة لا تريد أن توحي للمؤمنين بالموقع الأعلى في عمليّة استعلاء للذات على الآخرين لتصبّ في مجرى الأنانية الذاتية، بل كلّ ما تريده في ما نستوحيه منها هو الاستعلاء الروحي والرسالي على قوى الكفر والظلم والطغيان، وذلك من خلال ما تُعطيه كلمة [إن كنتم مؤمنين] من مفاهيم وأحاسيس وإيحاءات.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
أجل، إن لمعركة «أُحد» وما لحق بالمسلمين فيها من هزيمة نتائج وآثاراً، ومن نتائجها وآثارها الطبيعية أنها كشفت عن نقاط الضعف في الجماعة والثغرات الموجودة في كيانها، وهي وسيلة فعالة ومفيدة لغسل تلك العيوب والتخلّص من تلك النواقص والثغرات، ولهذا قال سبحانه: (وليمحص 4 الله الذين آمنوا) أي أن الله أراد في هذه الواقعة أن يتخلص المؤمنون من العيوب ويريهم ما هم مبتلون به من نقاط الضعف. إذ يجب لتحقيق الانتصارات في المستقبل أن يمتحنوا في بوتقة الاختبار، ويزنوا فيها...
ولهذا قد يكون لبعض الهزائم والنكسات من الأثر في صياغة المجتمعات الإنسانية وتربيتها ما يفوق أثر الانتصارات الظاهرية.
وأما نتيجة هذه التربية والصياغة التي يتلقاها المؤمنون في خضم المحن والمصائب وآتون الحوادث المرة فهو حصول القدرة الكافية لدحر الشرك والكفر دحراً ساحقاً وكاملاً. وإلى هذا أشار بقوله: (وليمحق 6 الكافرين).
فإن المؤمنين بعد أن تخلصوا في دوامة الحوادث من الشوائب يحصلون على القدرة الكافية للقضاء التدريجي على الشرك والكفر، وتطهير مجتمعهم من هذه الأقذار والشوائب، وهذا يعني أنه لابدّ أولاً من تطهير النفس ثمّ تطهير الغير، أي التطهر ثمّ التطهير.
وفي الحقيقة كما أن القمر مع ما هو عليه من النور والبهاء الخاصين به يفقد نوره شيئاً فشيئاً أمام وهج الشمس وبياض النهار حتّى يغيب في ظلمة المحاق فلا يعود يرى إلاّ عندما تنسحب الشمس من الأُفق، كذلك يأفل نجم الشرك وأهله وتتضاءل قوة الكفر وأشياعه كلّما ازداد صفاء المسلمين المؤمنين، وخلصوا من رواسب الضعف والاعوجاج والانحراف.
فهناك علاقة متقابلة بين تمحيص المؤمنين وارتقائهم في مدارج الخلوص والطهر، ومراتب الصفاء والتقوى، وبين انزياح الكفر والشرك واندثار معالمهما وآثارهما عن ساحة الحياة الاجتماعية.
هذه هي الحقيقة الكبرى والخالدة التي يلخصها القرآن في هاتين الجملتين اللتين تشكل الأُولى منها المقدمة والثانية النتيجة.