اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَمۡحَقَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (141)

قوله : { وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ } التمحيص : التخليص من الشيء .

وقيل : المَحْص كالفَحْص ، لكن الفَحْص يقال في إبراز الشيء من أثناء ما يختلط به وهو منفصل ، والمَحْص : يقال في إبرازه عما هو متصل به ، يقال : مَحَصْتُ الذهب ، ومحَّصته - إذا أزلْت عنه ما يشوبه من خَبَث ، ومَحَص الثوب : إذا زال عنه زئبره ومَحَصَ الحَبْل - إذا أخلق حتى ذهب عنه زئبره ، ومحص الظَّبْيُ : عدا . ف " محص " - بالتخفيف - يكون قاصراً ومتعدياً ، هكذا روى الزجاج هذه اللفظةَ - الحبل - ورواها النقاش : مَحَص الجمل - إذا ذهب وَبَرُه وامَّلَسَ - والمعنيان واضحان .

وقال الخليل : التمحيص : التخليصُ من الشيء المعيب .

وقيل : هو الابتلاء والاختبار .

قال الشاعر : [ الطويل ]

رَأيْتُ فُضَيْلاً كَانَ شَيْئاً مُلَفَّفاً *** فَكَشَّفَهُ التَّمْحِيصُ حَتَّى بَدَا لِيَا{[5992]}

وروى الواحِديُّ عن المبرد بسند متصل : مَحَصَ الحبلُ يمحص مَحْصاً - إذا ذهب زئبره حتى يتملص ، وحبل محيص ومليص بمعنًى واحدٍ ، قال : ويستحب في الفرس أن تُمَحَّصَ قوائمُه أي : تُخَلَّص من الرَّهَل .

[ وأنشد ابن الأنباريّ على ذلك ] {[5993]} - يصف فرساً - : [ البسيط ]

صُمُّ النُّسُورِ ، صِحَاحٌ ، غَيْرُ عَاثِرَةٍ *** رُكِّبْنَ فِي مَحِصَاتٍ مُلْتَقَى العَصَبِ{[5994]}

أي : في قوائم متجرِّدات من اللحم ، ليس فيها إلا العظم والجلد .

قال المبرد : ومعنى قول الناس مَحِّصْ عنا ذُنوبَنَا : أذهِب عنا ما تعلَّق من الذنوب .

قال الواحديُّ : " وهذا - الذي قاله المبردُ - تأويل المحَص - بفتح الحاء - وهو واقع ، والمَحْص - بسكون الحاء - " مصنوع " - وقال الخليل : يقال : مَحَصْت الشيء أمحصه مَحْصاً - إذا أخلصته من كل عيب " .

وفي جعله محْصاً - بتسكين الحاء - مصنوعاً نظر ؛ لأن أهل اللغة نقلوه ساكنها ، وهو قياس مصدر الثلاثي . ومَحَصْت السيف والسنان : جَلَوتُهما حتى ذهب صدأهما .

قال أسامة الهذليّ : [ الطويل ]

وَشَقُّوا بِمَمْحُوصِ السِّفَانِ فُؤادَهُ *** لَهُمْ قُتُرَاتٌ قَدْ بُنِيْنَ مَحَاتِد{[5995]}

أي : بمجلُوٍّ ، ومنه استُعِير ذلك في وَصْف الحبل بالملاسة والبريق .

قال العجاج : [ الرجز ]

شَدِيدُ جَلْزِ الصُّلْبِ مَمْحُوصُ الشَّوَى *** كَالْكَرِّ ، لا شَخْتٌ وَلاَ فِيهِ لَوَى{[5996]}

والشوى : الظهر ، قَصَره ضرورةً ، سُمِع : فعلتُه حتى انقطع شَوَاي ، أي : ظَهْري . والمحق - في اللغة - النقصان .

وقال المفضَّل : هو أن يذهب الشيءُ كلُّه ، حتَّى لا يُرَى منه شيء ، ومنه قوله تعالى : { يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا } [ البقرة : 276 ] أي : يستأصله ، وقد تقدم الكلام عليه في البقرة .

قال الزجاج : معنى الآية : أن الله تعالى جعل الأيام مداولةً بين المسلمين والكافرين ، فإن حصلت الغلبة للكافرين كان المراد : تمحيص ذنوب المؤمنين - أي : تطهيرها - وإن كانت الغلبة للمؤمنين كان المراد : مَحْق آثار الكافرين ، ومَحْوَهم ، فقابل تمحيص المؤمنين بمحق الكافرين ؛ لأن تمحيص هؤلاء بإهلاك ذنوبهم نظير مَحْق أولئك بإهلاك نفوسهم ، وهذه مقابلة لطيفة ، والأقرب أن المراد بالكافرين - هنا - طائفة مخصوصة منهم - وهم الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد ، لأن الله تعالى لم يَمْحَق كل الكافرين ، بل بَقِي كثير منهم على كُفره .


[5992]:البيت لعبد الله بن معاوية. ينظر الكامل 1/183 واللسان (محص) وإرشاد الساري 6/29 وزاد المسير 2/467 ورغبة الآمل 3/24 والبحر المحيط 3/69 وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص 113 والدر المصون 2/217.
[5993]:بدل ما بين المعكوفتين في ب: قال الشاعر.
[5994]:البيت لأبي دؤاد الإيادي –ينظر ديوانه (285) والزاهر للأنباري 1/107 وأمالي القالي 2/305 والدر المصون 2/217.
[5995]:ينظر البيت في ديوان الهذليين 2/206 وشرح أشعار الهذليين 3/300 وتاج العروس 4/434 واللسان (حتد) والدر المصون 2/217.
[5996]:ينظر: البيت في اللسان (محص) وتهذيب اللغة 4/271 وتاج العروس 455/434 والدر المصون 2/218 ورواية البيت في الديوان هكذا: شديد جلز الصلب معصوب الشوى *** ...