ويلتفت السياق أمام مشهد الهول المفزع ، إلى المكذبين أولي النعمة ، يذكرهم فرعون الجبار ، وكيف أخذه الله أخذ عزيز قهار :
( إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا ، فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا ) .
هكذا في اختصار يهز قلوبهم ويخلعها خلعا ، بعد مشهد الأرض والجبال وهي ترتجف وتنهار .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىَ فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَىَ فِرْعَوْنُ الرّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً } .
يقول تعالى ذكره : إنا أرْسَلْنا إلَيْكُمْ أيها الناس رَسُولاً شاهِدا عَلَيْكُمْ بإجابة من أجاب منكم دعوتي ، وامتناع من امتنع منكم من الإجابة ، يوم تلقوني في القيامة كمَا أرْسَلْنا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً يقول : مثل إرسالنا من قبلكم إلى فرعون مصر رسولاً بدعائه إلى الحقّ ، فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرّسُولَ الذي أرسلناه إليه فأَخَذْناهُ أخْذا وَبِيلاً يقول : فأخذناه أخذا شديدا ، فأهلكناه ومن معه جميعا وهو من قولهم : كلأٌ مستَوْبل ، إذا كان لا يُستمرأ ، وكذلك الطعام . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : أخْذا وَبِيلاً قال : شديدا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : أخْذا وَبِيلاً قال : شديدا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : فأخَذْناهُ أخْذا وَبِيلاً أي شديدا .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة أخْذا وَبِيلاً قال : شديدا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فأخَذْناهُ أخْذا وَبِيلاً قال : الوبيل : الشرّ والعرب تقول لمن تتابع عليه الشرّ : لقد أوبل عليه ، وتقول : أوبلت على شرّك قال : ولم يرض الله بأن غُرّق وعُذّب حتى أقرّ في عذاب مستقرّ حتى يُبعث إلى النار يوم القيامة ، يريد فرعون .
نقل الكلام إلى مخاطبة المشركين بعد أن كان الخطاب موجهاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
والمناسبة لذلك التخلصُ إلى وعيدهم بعد أن أمره بالصبر على ما يقولون وهجرهم هجراً جميلاً إذ قال له { وذرني والمكذبين } إلى قوله : { وعذاباً أليماً } [ المزمل : 1113 ] .
فالكلام استئناف ابتدائي ، ولا يُعد هذا الخطاب من الالتفات لأن الكلام نقل إلى غرض غير الغرض الذي كان قبله .
فالخطاب فيه جار على مقتضى الظاهر على كلا المذهبين : مذهب الجمهور ومذهب السكاكي .
والمقصود من هذا الخبر التعريض بالتهديد أن يصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم ممن كذبوا الرسل فهو مثَل مضروب للمشركين .
وهذا أول مثَل ضربه الله للمشركين للتهديد بمصير أمثالهم على قول الجمهور في نزول هذه السورة .
واختير لهم ضرب المثل بفرعون مع موسى عليه السلام ، لأن الجامع بين حال أهل مكة وحال أهل مصر في سبب الإِعراض عن دعوة الرسول هو مجموع ما هم عليه من عبادة غير الله ، وما يملأ نفوسهم من التكبر والتعاظم على الرسول المبعوث إليهم بزعمهم أن مثلهم لا يطيع مِثله كما حكى الله تعالى عنهم بقوله : { فقالوا أنؤمن لبشرين مثِلنا وقومُهما لنا عابدون } [ المؤمنون : 47 ] وقد قال أهل مكة { لولا نُزِّل هذا القرءان على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] وقد حكى الله عنهم أنهم قالوا { لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربّنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتَوْا عُتُوّاً كبيراً } [ الفرقان : 21 ] . وقد تكرر في القرآن ضرب المثل بفرعون لأبي جهل وهو زعيم المناوين للنبيء صلى الله عليه وسلم والمؤلبين عليه وأشد صناديد قريش كفراً .
وأُكد الخبر ب ( إنَّ ) لأن المخاطبين منكرون أن الله أرسل إليهم رسولاً .
ونكر { رسولاً } لأنهم يعلمون المعنيَّ به في هذا الكلام ، ولأن مناط التهديد والتنظير ليس شخص الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو صفة الإِرسال .
وأدمج في التنظير والتهديدِ وصفُ الرسول صلى الله عليه وسلم بكونه شاهداً عليهم .
والمراد بالشهادة هنا : الشهادة بتبليغ ما أراده الله من الناس وبذلك يكون وصف { شاهداً } موافقاً لاستعمال الوصف باسم الفاعل في زمن الحال ، أي هو شاهد عليكم الآن بمعاودة الدعوة والإِبلاغ .
وأما شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة فهي شهادة بصدق المسلمين في شهادتهم على الأمم بأن رسلهم أبلغوا إليهم رسالات ربّهم ، وذلك قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً } كما ورد تفصيل تفسيرها في الحديث الصحيح ، وقد تقدم في سورة البقرة ( 143 ) .
وتنكير { رسولاً } المرسَل إلى فرعون لأن الاعتبار بالإِرسال لا بشخص المرسل إذ التشبيه تعلق بالإِرسال في قوله : { كما أرسلنا إلى فرعون } إذ تقديره كإرسالنا إلى فرعون رسولاً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إنا أرسلنا إليكم} يا أهل مكة {رسولا} يعني النبي صلى الله عليه وسلم لأنه ولد فيهم فازدروه، {شاهدا عليكم} أنه بلغكم الرسالة، وقد استخفوا به، وازدروه...
{كما أرسلنا إلى فرعون رسولا} يعني موسى، عليه السلام.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"إنا أرْسَلْنا إلَيْكُمْ "أيها الناس "رَسُولاً شاهِدا عَلَيْكُمْ" بإجابة من أجاب منكم دعوتي، وامتناع من امتنع منكم من الإجابة يوم تلقوني في القيامة "كمَا أرْسَلْنا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً": مثل إرسالنا من قبلكم إلى فرعون مصر رسولاً بدعائه إلى الحقّ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{شاهدا عليكم} قال أبو بكر الأصم: تأويله: مبينا لكم ما لله عليكم من الحق. وجائز أن يكون {شاهدا عليكم} أي لكم وعليكم جميعا؛ فيكون على الكفرة شاهدا بقوله: {وجئنا بك شهيدا على هؤلاء} [النحل: 89] ويكون للمؤمنين شاهدا.
وخصّ ذكر موسى عليه السلام وفرعون من بين الجملة.
ففائدة ذكر التخصيص، هو -والله أعلم- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان منشأه بين ظهراني الذين كذّبوه، ولم يكونوا وقفوا منه على كذبة قط، بل كانوا عرفوه بالصيانة والعدالة، وكان بمحل يرونه أهلا للشهادة، فكيف ينسبونه إلى الكذب، ولم يعهدوا ذلك منه؟ وكذلك موسى عليه السلام كان نشأ بين ظهراني أولئك الذين أرسل إليهم وكانوا عرفوه بالصيانة والعدالة، وعرفوا أنه يصلح للشهادة.
ومنهم من يقول بأنهم أزروا برسول الله صلى الله عليه وسلم واستصغروه اعتبارا بما شهدوا من حاله عند الصغر، إذ كان منشؤه فيهم، فكذلك أزروا بموسى عليه السلام حين بعث إليهم، واستخفوا به استخفافهم به في حالة الصغر حتى قالوا: {ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين} [الشعراء: 18] فنزل بهم ما نزل بأولئك من الاستئصال بتكذيبهم إياه وإزرائهم به، فذكّرهم حال مكذبي موسى عليه السلام وما نزل بهم من مقت الله تعالى بتكذيبهم وإزرائهم ليعتبروا به، فينقلعوا عن الإزراء لئلا يحل بهم ما حلّ بأولئك ولئلا يغتروا بقواهم وكثرة عددهم وأموالهم؛ فإن مكذبي موسى عليه السلام كانوا أكثر أموالا وأولادا وأعدادا وأشد بطشا فلم يغنهم ذلك من الله شيئا.
وجائز أن يكون حصر ذكر موسى عليه السلام وفرعون، ونبأهما، لأن خبره منتشرا في ما بين أهل مكة، لأنهم كانوا خبرة اليهود والذين عندهم نبأ موسى عليه السلام لينتهوا عمّا هم عليه من التكذيب، ولأن الله تعالى إذ يحتج بالحجج؛ وله أن يحتج عليهم بحلها، إذ في ذلك قطع الشبه وإزاحة العذر، أو ذكّرهم نبأ موسى عليه السلام وقومه لأن العهد به كان أقرب؛ إذ قومه كانوا آخر قوم استؤصلوا في الدنيا.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{إنا أرسلنا إليكم} الآية خطاب للعالم، لكن المواجهون قريش، وقوله {شاهداً عليكم} نحو قوله {وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} [النساء: 41]، وتمثيله لهم أمرهم بفرعون وعيد كأنه يقول: فحالهم من العذاب والعقاب إن كفروا سائرة إلى مثل حال فرعون.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويلتفت السياق أمام مشهد الهول المفزع، إلى المكذبين أولي النعمة، يذكرهم فرعون الجبار، وكيف أخذه الله أخذ عزيز قهار: (إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا، فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا). هكذا في اختصار يهز قلوبهم ويخلعها خلعا، بعد مشهد الأرض والجبال وهي ترتجف وتنهار.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
نقل الكلام إلى مخاطبة المشركين بعد أن كان الخطاب موجهاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والمناسبة لذلك التخلصُ إلى وعيدهم بعد أن أمره بالصبر على ما يقولون وهجرهم هجراً جميلاً إذ قال له {وذرني والمكذبين} إلى قوله: {وعذاباً أليماً}.
والمقصود من هذا الخبر التعريض بالتهديد أن يصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم ممن كذبوا الرسل فهو مثَل مضروب للمشركين.
وهذا أول مثَل ضربه الله للمشركين للتهديد بمصير أمثالهم على قول الجمهور في نزول هذه السورة.
واختير لهم ضرب المثل بفرعون مع موسى عليه السلام، لأن الجامع بين حال أهل مكة وحال أهل مصر في سبب الإِعراض عن دعوة الرسول هو مجموع ما هم عليه من عبادة غير الله، وما يملأ نفوسهم من التكبر والتعاظم على الرسول المبعوث إليهم بزعمهم أن مثلهم لا يطيع مِثله كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: {فقالوا أنؤمن لبشرين مثِلنا وقومُهما لنا عابدون} [المؤمنون: 47] وقد قال أهل مكة {لولا نُزِّل هذا القرءان على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31] وقد حكى الله عنهم أنهم قالوا {لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربّنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتَوْا عُتُوّاً كبيراً} [الفرقان: 21]. وقد تكرر في القرآن ضرب المثل بفرعون لأبي جهل وهو زعيم المناوئين للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤلبين عليه، وأشد صناديد قريش كفراً.
وأُكد الخبر ب (إنَّ) لأن المخاطبين منكرون أن الله أرسل إليهم رسولاً.
ونكر {رسولاً} لأنهم يعلمون المعنيَّ به في هذا الكلام، ولأن مناط التهديد والتنظير ليس شخص الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو صفة الإِرسال.
وأدمج في التنظير والتهديدِ وصفُ الرسول صلى الله عليه وسلم بكونه شاهداً عليهم.
والمراد بالشهادة هنا: الشهادة بتبليغ ما أراده الله من الناس وبذلك يكون وصف
{شاهداً} موافقاً لاستعمال الوصف باسم الفاعل في زمن الحال، أي هو شاهد عليكم الآن بمعاودة الدعوة والإِبلاغ.
وأما شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة فهي شهادة بصدق المسلمين في شهادتهم على الأمم بأن رسلهم أبلغوا إليهم رسالات ربّهم، وذلك قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} كما ورد تفصيل تفسيرها في الحديث الصحيح، وقد تقدم في سورة البقرة (143).
وتنكير {رسولاً} المرسَل إلى فرعون لأن الاعتبار بالإِرسال لا بشخص المرسل إذ التشبيه تعلق بالإِرسال في قوله: {كما أرسلنا إلى فرعون} إذ تقديره كإرسالنا إلى فرعون رسولاً.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ} كما هم الأنبياء الذين يرسلهم الله برسالاته ليبلّغوها للناس، وليؤكدوا عليهم السير في خطها المستقيم، وليراقبوا التجربة الحيّة على الطبيعة في عملية ملاحقةٍ لكل أوضاعها السلبية أو الإِيجابية، ليشهدوا غداً أمام الله أنهم قد قامت عليهم الحجة في وصول الرسالة إليهم بكل ما فيها من مواقف الحق النازل من الله، {كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} عندما اقتضت الحكمة الإِلهية أن يرسل موسى (عليه السلام) إلى فرعون ليصدم جبروته وكبرياءه، وليحطّم الحاجز الذي كان يضعه أمام الناس المستضعفين، ليمنعهم من الانفتاح على الإيمان بالله في أفكارهم، ومن الوعي لمواقع الحرية والعزة في حياتهم، ليخرجوا من الظلمات إلى النور، وليتحرّروا من سيطرة طغيانه وجبروته.
وانفتحت كل ساحات الصراع في حركة الرسالة ضد الكفر والظلم والاستكبار... وكان التحدي الرسالي سيّد الموقف، فوقف موسى (عليه السلام) الموقف القويّ الذي يستمد حيويّته وقوته من قوة الإيمان بالله.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ يقارن بين بعثة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومخالفة الأشداء العرب، وبين نهوض موسى بن عمران بوجه الفراعنة فيقول تعالى: (إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً).
إنّ هدف النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هدايتكم والإشراف على أعمالكم كما كان هدف موسى (عليه السلام) هداية فرعون وأتباعه والإشراف على أعمالهم.
لم يكن جيش فرعون مانعاً من العذاب الإلهي، ولم تكن سعة مملكتهم وأموالهم وثراؤهم سبباً لرفع هذا العذاب، ففي النهاية أُغرقوا في أمواج النيل المتلاطمة إذ أنّهم كانوا يتباهون بالنيل، فبماذا تفكرون لأنفسكم وأنتم أقل عدّة وعدداً من فرعون وأتباعه وأضعف؟! وكيف تغترون بأموالكم وأعدادكم القليلة؟!