وَإِنْ تَوَلَّوْا عن الطاعة وأوضعوا في الإضاعة فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى الذي يتولى عباده المؤمنين ، ويوصل إليهم مصالحهم ، وييسر{[344]} لهم منافعهم الدينية والدنيوية . وَنِعْمَ النَّصِيرُ الذي ينصرهم ، فيدفع عنهم كيد الفجار ، وتكالب الأشرار .
ومن كان اللّه مولاه وناصره فلا خوف عليه ، ومن كان اللّه عليه فلا عِزَّ له ولا قائمة له .
وقوله تعالى : { وإن تولوا } الآية ، معادل لقوله { فإن انتهوا } ، والمعنى انتهوا عن الكفر فالله مجازيهم أو مجازيكم على قراءة «تعملون » ، وإن تولوا ولم ينتهوا فاعلموا أن الله ينصركم عليهم ، وهذا وعد محض بالنصر والظفر ، أي فجدوا ، و «المولى » ها هنا الموالي والمعين ، والمولى في اللغة على معان هذا هو الذي يليق بهذا الموضع منها ، والمولى الذي هو السيد المقترن بالعبد يعم المؤمنين والمشركين .
التولي : الإعراض وقد تقدم عند قوله تعالى : { فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين } في سورة [ العقود : 92 ] .
والمَوْلى الذي يتولى أمر غيره ويدفع عنه وفيه معنى النصر .
والمعنى وإن تولوا عن هاته الدعوة فالله مغن لكم عن وَلائهم ، أي لا يضركم توليهم فقوله : { أن الله مولاكم } يؤذن بجواب محذوف تقديره : فلا تخافوا تَوليهم فإن الله مولاكم وهو يقدر لكم ما فيه نفعكم حتى لا تكون فتنة . وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم لمسيلمة الكذاب « ولئن توليتَ ليعْفِرنك الله » وإنما الخسارة عليهم إذْ حُرِموا السلامة والكرامة .
وافتتاح جملة جواب الشرط ب { اعلموا } لقصد الاهتمام بهذا الخبر وتحقيقه ، أي لا تغفلوا عن ذلك ، كما مر آنفاً عند قوله تعالى : { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } [ الأنفال : 24 ] .
وجملة : { نعم المولى ونعم النصير } مستأنفة لأنها إنشاء ثناء على الله فكانت بمنزلة التذييل .
وعطف على { نعم المولى } قوله : { ونعم النصير } لما في المولى من معنى النصر كما تقدم وقد تقدم بيان عطف قوله تعالى : { ونعم الوكيل } على قوله : { حسبنا الله } سورة [ آل عمران : 173 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإن تولوا} يقول: وإن أبوا أن يتوبوا من الشرك {فاعلموا} يا معشر المؤمنين، {أن الله مولاكم} يعنى وليكم، {نعم المولى} حين نصركم، {ونعم النصير} يعنى ونعم النصير لكم كما نصركم ببدر.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وإن أدبر هؤلاء المشركون عما دعوتموهم إليه أيها المؤمنون من الإيمان بالله ورسوله وترك قتالكم على كفرهم، فأبوا إلا الإصرار على الكفر وقتالكم، فقاتلوهم وأيقنوا أن الله معينكم عليهم وناصركم. "نِعْمَ المَوْلَى "هو لكم، يقول: نعم المعين لكم ولأوليائه، "وَنِعْمَ النّصِير" وهو الناصر...
عن ابن إسحاق: "وإن تولوا"، عن أمرك إلى ما هم عليه من كفرهم، فإن الله هو مولاكم الذي أعزكم ونصركم عليهم يوم بدر، في كثرة عددهم وقلة عددكم" نعم المولى ونعم النصير".
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قوله "وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم "قيل في معناه قولان: أحدهما -وإن تولى هؤلاء الكفار وأعرضوا عن الدين الحق واتباعه فثقوا بالله وتذكروا ما وعدكم به أيها المؤمنون تسكينا لنفوسهم وتمكينا للحق عندهم. والثاني- فاعلموا أن الله ينصركم عليهم على طريق الأمر بعلم هذا ليكونوا على بصيرة في أن الغلبة لهم وقوله "وإن تولوا" شرط. وقوله "فاعلموا أن الله"... كأنه قال فواجب عليكم العلم بأن الله مولاكم، أو فينبغي أن تعلموا أن الله مولاكم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله تعالى: {وإن تولوا} الآية، معادل لقوله {فإن انتهوا}، والمعنى انتهوا عن الكفر فالله مجازيهم أو مجازيكم على قراءة «تعملون»، وإن تولوا ولم ينتهوا فاعلموا أن الله ينصركم عليهم، وهذا وعد محض بالنصر والظفر، أي فجدوا، و «المولى» ها هنا الموالي والمعين، والمولى في اللغة على معان هذا هو الذي يليق بهذا الموضع منها، والمولى الذي هو السيد المقترن بالعبد يعم المؤمنين والمشركين...
{وإن تولوا} يعني عن التوبة والإيمان {فاعلموا أن الله مولاكم} أي وليكم الذي يحفظكم ويرفع البلاء عنكم، ثم بين أنه تعالى {نعم المولى ونعم النصير} وكل ما كان في حماية هذا المولى وفي حفظه وكفايته، كان آمنا من الآفات مصونا عن المخوفات...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومن تولى وأصر على مقاومة سلطان الله قاتله المسلمون معتمدين على نصرة الله: (وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم. نعم المولى ونعم النصير).. هذه تكاليف هذا الدين؛ وهذه هي جديته وواقعيته وإيجابيته وهو يتحرك لتحقيق ذاته في عالم الواقع؛ ولتقرير ألوهية الله وحده في دنيا الناس.. إن هذا الدين ليس نظرية يتعلمها الناس في كتاب؛ للترف الذهني والتكاثر بالعلم والمعرفة! وليس كذلك عقيدة سلبية يعيش بها الناس بينهم وبين ربهم وكفى! كما أنه ليس مجرد شعائر تعبدية يؤديها الناس لربهم فيما بينهم وبينه! إن هذا الدين إعلان عام لتحرير الإنسان.. وهو منهج حركي واقعي، يواجه واقع الناس بوسائل مكافئة.. يواجه حواجز الإدراك والرؤية بالتبليغ والبيان.. ويواجه حواجز الأوضاع والسلطة بالجهاد المادي لتحطيم سلطان الطواغيت وتقرير سلطان الله.. والحركة بهذا الدين حركة في واقع بشري. والصراع بينه وبين الجاهلية ليس مجرد صراع نظري يقابل بنظرية! إن الجاهلية تتمثل في مجتمع ووضع سلطة، ولا بد -كي يقابلها هذا الدين بوسائل مكافئة- أن يتمثل في مجتمع ووضع وسلطة. ولا بد بعد ذلك أن يجاهد ليكون الدين كله لله، فلا تكون هناك دينونة لسواه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... والمعنى: وإن تولوا عن هاته الدعوة فالله مغن لكم عن وَلائهم، أي لا يضركم توليهم فقوله: {أن الله مولاكم} يؤذن بجواب محذوف تقديره: فلا تخافوا تَوليهم فإن الله مولاكم وهو يقدر لكم ما فيه نفعكم حتى لا تكون فتنة. وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم لمسيلمة الكذاب « ولئن توليتَ ليعْفِرنك الله» وإنما الخسارة عليهم إذْ حُرِموا السلامة والكرامة.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
في الآية السابقة فتح الله تعالى باب التوبة للكافرين ليخلصهم الله تعالى من الشرك الذي أركسوا فيه، وأشار سبحانه إلى أنه أمر عارض على نفوسهم، يستطيعون أن يرحضوه عنها، كما يرخص الوسخ على الثوب الأملس، وبين أن القتال لإزالة الفتنة في الدين، حتى يكون الدين لله. وبعد هذا ذكر ولاء الله تعالى للمؤمنين، وأنه وليهم وناصرهم إن أعرض المشركون، فقال تعالى: {وإن تولوا} أي أعرضوا ونأوا بجانبهم بعد أن فتح لهم باب الغفران، أو أن يقول: إن استمروا على إعراضهم وتنائيهم عن الحق فإنه هو مولاكم، فلا تخافوهم، وإن الله غالبكم عليهم لأنه مولاكم وناصركم،...
والله سبحانه وتعالى يرغب الناس حتى يؤمنوا، ولكنه في ذات الوقت يبين لهم أن كثرة عدد المؤمنين ليست هي التي تعلي راية الإسلام وتصنع النصر للإيمان، فيقول سبحانه: {وإن تولوا}. وهنا شبهة في أن الله تعالى يحنن هؤلاء على أن يؤمنوا، وأن يسلموا، وأن يعودوا إلى حظيرة الحق، وربما ظن ظان أن الإسلام يريد أن يقوى بهم، ولذلك قال الحق: {وإن تولوا} أي إياكم أن يفت ذلك في عضدكم، أو أن يقلل هذا الأمر من همتكم وشجاعتكم، لأنكم إنما تنتصرون بمدد من الله العلي القدير، فهم إن لم يؤمنوا، فاعلموا أن الإسلام لا ينتصر بهم، وانتشاره ليس بكثرة المسلمين أو قلتهم، لأن النصر من عند الله، وسبحانه ليس محتاجا لخلقه، وكثرة جنود الإسلام لا تصنع النصر؛ لأن نصر الله للمسلمين إن اتبعوا منهجه يتحقق سواء قلوا أم كثروا. ولذلك يلفت نظرهم وينبههم إلى أنه تولى عنهم ولم يؤمنوا، فإياكم أن يؤثر ذلك على شجاعتكم؛ لأنكم لا تنتصرون بمدد من هؤلاء الذين رفضوا الإيمان، ولكن بمدد من الله سبحانه وتعالى، فالله هو مولاكم. وإذا كان الله مولى لكم أي ناصرا ومؤيدا فهو سبحانه وتعالى: {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} لماذا؟. لأن المولى إذا كان غير الله فهو من الأغيار، قد يكون اليوم قويا قادرا على أن يأخذ بيدنا وينصرنا، ولكنه قد يموت غدا؛ لذلك فهو لا يصلح مولى. وقد يسقط عنه سلطانه وقوته ويصبح ضعيفا محتاجا لمن ينصره فلا ينفع وليا ولا معينا لأحد. والمولى الحق الذي يجب أن نتمسك به هو الذي لا تصيبه الأغيار لأنه دائم الوجود لا ينتهي بالموت وهو دائم القوة والقدرة لا يضعف أبدا، هذا هو المولى الذي تضع فيه ثقتك وتتوكل عليه. ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا أننا يجب ألا نضع ثقتنا وأملنا إلا فيه وتوكلنا إلا عليه سبحانه وتعالى فيقول: {وتوكل على الله الحي الذي لا يموت} (من لآية 58 سورة الفرقان): أي إذا أردت فعلا أن تتوكل، فتوكل على من هو موجود دائما قوي دائما، فتوكل على الله. وقوله تعالى: {نعم المولى} يؤكد أن الله قوي قادر دائم الوجود، وقوله تعالى: {ونعم النصير}. يؤكد سبحانه وتعالى أنه محيط بكل ما يدبره لك أعداؤك، فلا يغيب عنه شيء. أنت تحاربهم بما تعرفه من الحيل وفنون القتال وهم يفعلون ذلك. ولكن الله سبحانه وتعالى يعلم حيلهم فيبطلها، ويحقق لكم النصر بأن يلهمكم من الحيل ما لا يستطيعون مواجهته. يعطيكم مددا من السماء وهذا المدد هو الذي يحقق لكم النصر...