{ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وحاصل هذا أن الله نهى عن شيئين : الشك في هذا القرآن والامتراء فيه .
وأشد من ذلك ، التكذيب به ، وهو آيات الله البينات التي لا تقبل التكذيب بوجه ، ورتب على هذا الخسار ، وهو عدم الربح أصلاً ، وذلك بفوات الثواب في الدنيا والآخرة ، وحصول العقاب في الدنيا والآخرة ، والنهي عن الشيء أمر بضده ، فيكون أمرًا بالتصديق التام بالقرآن ، وطمأنينة القلب إليه ، والإقبال عليه ، علمًا وعملاً .
فبذلك يكون العبد من الرابحين الذين أدركوا أجل المطالب ، وأفضل الرغائب ، وأتم المناقب ، وانتفى عنهم الخسار .
ولكن هذا التوجيه يشي بما كان وراءه من شدة الموقف وتأزمه في مكة بعد حادث الإسراء ، وقد ارتد بعض من أسلموا لعدم تصديقه . وبعد موت خديجة وأبي طالب ، واشتداد الأذى على رسول اللّه [ ص ] ومن معه ؛ وبعد تجمد الدعوة تقريباً في مكة بسبب موقف قريش العنيد . . وكل هذه ملابسات تلقي ظلالها على قلب رسول اللّه - [ ص ] - فيسري عنه ربه بهذا التوكيد ، بعد ذلك القصص الموحى . .
ثم إنه تعريض بالشاكين الممترين المكذبين :
( ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات اللّه فتكون من الخاسرين ) .
وهذا التعريض يترك الفرصة لمن يريد منهم أن يرجع ليرجع ؛ لأنه إذا كان الرسول - [ ص ] - مأذوناً في أن يسأل إن كان في شك ، ثم هو لا يسأل ولا يشك ، فهو إذن على يقين مما جاء به أنه الحق . وفي هذا إيحاء للآخرين ألا يترددوا ، وألا يكونوا ( من الممترين ) . .
ثم إنه المنهج الذي يضعه اللّه لهذه الأمة فيما لا تستوثق منه . . أن تسأل أهل الذكر . . ولو كان من أخص خصائص العقيدة ؛ لأن المسلم مكلف أن يستيقن من عقيدته وشريعته ، وألا يعتمد على التقليد دون تثبت ويقين
ثم أيكون هنالك تعارض بين إباحة هذا السؤال عند الشك وبين قوله : ( فلا تكونن من الممترين )? . . ليس هنالك تعارض لأن المنهي عنه هو الشك والبقاء على الشك بحيث يصبح صفة دائمة . . . . " من الممترين " . . ولا يتحرك صاحبها للوصول إلى يقين . وهي حالة رديئة لا تنتهي إلى معرفة ، ولا تحفز إلى استفادة ، ولا تئول إلى يقين .
قال قتادة بن دِعَامة : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا أشك ولا أسأل " {[14423]}
وكذا قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن البصري ، وهذا فيه تثبيت{[14424]} للأمة ، وإعلام لهم أن صفة نبيهم صلى الله عليه وسلم موجودة{[14425]} في الكتب المتقدمة التي بأيدي أهل الكتاب ، كما قال تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ } الآية [ الأعراف : 157 ] . ثم مع هذا العلم يعرفونه من كتبهم كما يعرفون أبناءهم ، يلبسون ذلك ويحرفونه ويبدلونه ، ولا يؤمنون به مع قيام الحجة عليهم ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } أي : لا يؤمنون إيمانا ينفعهم ، بل حين لا ينفع نفسًا إيمانها ؛ ولهذا لما دعا موسى ، عليه السلام ، على فرعون وملئه قال : { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس : 88 ] ، كما قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } [ الأنعام : 111 ]
كان تفريع { فلا تكونن من الممترين } تعريضاً أيضاً بالمشركين بأنهم بحيث يُحذر الكون منهم .
والامتراء : الشك فيما لا شبهة للشك فيه . فهو أخص من الشك .
وكذلك عطف { ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله } وهو أصرح في التعريض بهم { فتكون من الخاسرين } . وهذا يقتضي أنهم خاسرون . ونظيره { لئن أشركت ليحبطنّ عملُك ولتكوننّ من الخاسرين } [ الزمر : 65 ] ، وحاصل المعنى : فإن كنتم شاكين في صدق ما أنزلنا على محمد مما أصاب المكذبين قبلَكم فاسألوا أهل الكتاب يخبروكم بأن ذلك صدق ، لقد جاءكم الحق من رب محمد صلى الله عليه وسلم فلا تكونوا شاكّين ولا تكذبوا بآيات الله فتكونوا خاسرين .