ولمَّا ذكر الله تعالى لهم ما يزيل الشَّك عنهم ، حذَّرهم من أن يلحقوا بالقسم الثاني ، وهم المكذِّبون فقال : { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله } [ يونس : 95 ] الآية .
وقيل : كنى بالشَّك عن الضِّيق . وقيل : كنى به عن العجب ، وجه المجازِ فيه أنَّ كُلاًّ منهما فيه تردُّد ، وقال الكسائيُّ : إن كنت في شكٍّ أنَّ هذه عادتُهُم مع الأنبياء ؛ فسلهم كيف صبر موسى - عليه السلام - ؟ .
وقيل : إنه تعالى علم أنَّ الرسول لم يشك في ذلك ، إلاَّ أنَّ المقصود منه أنَّهُ متى سمع هذا الكلام فإنَّهُ يصرخ ويقول " يا ربّ لا أشك ، ولا أطلب الحجة من قول أهل الكتاب ، بل يكفيني ما أنزلته عليَّ من الدلائل الظاهرة " ونظيره قوله تعالى للملائكة : { أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } [ سبأ : 40 ] والمقصودُ أن يُصرِّحُوا بالجواب الحق ويقولوا : { سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن } [ سبأ : 41 ] .
وكقوله لعيسى - عليه الصلاة والسلام - { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله } [ المائدة : 116 ] والمقصود منه أن يصرح عيسى بالبراءة عن ذلك . وقيل : التقدير إنَّك لسيت بشاك البتة . ولو كنت شاكاً لكان لك طرق كثيرة في إزالة الشَّك كقوله تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] أي : أنه لو فرض ذلك الممتنع واقعاً ؛ لزم فيه المحال الفلاني ، فكذا ههنا ، ولو فرضنا وقوع الشَّك فارجع إلى التَّوراةِ ، والإنجيل لتعرف بهما أنَّ هذا الشك زائل .
والوجه الثاني من وجهي إنْ أنَّها نافيةٌ . قال الزمخشري : " أي : فما كنتَ في شكٍّ فاسأل ، يعنى لا نأمرك بالسُّؤال لكونكَ شاكاً ، ولكن لتزداد يَقِيناً كما ازداد إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - بمعاينة إحياء الموتى " وهذا القول سبقه إليه الحسنُ البصريُّ والحسينُ بنُ الفضل ، وكأنَّهُ فرارٌ من الإشكال المتقدِّم في جعلها شرطية ، وقد تقدَّم جوابه من وجوهٍ .
قال القرطبي{[18615]} : قال أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزَّاهد : سمعت الإمامين : ثَعْلباً والمبرد يقولان : معنى : " فإن كُنتَ في شكٍّ " أي : قُلْ يا محمَّدُ للكافر : فإن كُنتَ في شكٍّ { فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ } .
وقال الفراء : أعْلمَ اللهُ أنَّ رسولهُ غير شاكٍّ ، لكنَّه ذكره على عادة العرب ، يقول الواحدُ لعبده : إن كنت عبدي فأطِعْني ، ويقول لولده افعل كذا إن كنت ولدي ، ولا يكونُ ذلك شكّاً .
وقال الفقيه : وقال بعضهم : هذا الخطاب لمنْ كان لا يقطعُ بتكذيب محمدٍ - عليه الصلاة والسلام - ولا بتصديقه بل كان في شكٍّ .
وقيل : المراد بالخطاب النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى : لو كنت ممَّن يلحقك شكٌّ فيما أخبرناك به ، فسألت أهل الكتاب لأزالوا عنك الشَّكَّ .
والمراد بالشَّك هنا : ضيق الصدر ، أي : إن ضاق صدرك بكفر هؤلاء فاصبر واسأل الذين يقرَؤونَ الكتابَ من قَبْلكَ ، يُخْبِرُوكَ صَبْرَ الأنبياء من قبلك على أذى قومهم وكيف كان عاقبة أمرهم . والشَّكُّ في اللغةِ : أصله الضِّيق ، يقال : شكَّ الثَّوب ، أي : ضمَّهُ بخلال حتى يصير كالوعاء ، فالشكُّ يقبض الصدر ، ويضمه حتَّى يضيق .
قال المُحَقِّقُون : المراد بالذين يقرءون الكتاب : المؤمنون من أهْلِ الكتابِ ، كعبد الله بن سلام ، وعبد الله بن صوريا ، وتميم الداري ، وكعب الأحبار ، لأنَّهُم هم الذين يوثق بأخبارهم .
وقال بعضهم : المراد الكل سواء كانوا من المسلمين أم من الكُفَّار ؛ لأنَّهم إذا بلغُوا عدد التواتر ، وقرؤوا آية من التَّوراة ، والإنجيل ، وتلك الآية دالة على البشارة بمقدمِ النبي صلى الله عليه وسلم فقد حصل الغرضُ .
وقرا يحيى{[18616]} ، وإبراهيم : الكتب بالجمع ، وهي مبنيةٌ أنَّ المراد بالكتاب الجنسٌ لا كتابٌ واحد . فإن قيل : إن كتبهم قد دخلها التَّحريفُ والتَّغييرُ ، فكيف يمكنُ التعويلُ عليها ؟ .
فالجواب : أنهم إنما حرَّفُوها لإخفاء الآيات الدَّالة على نبوَّةِ محمدٍ - عليه الصلاة والسلام - ، فإن بقيت فيها آيات دالة على نبوته ؛ كان ذلك من أقوى الدَّلائل على صحَّة نبوَّة محمد - عليه الصلاة والسلام - لأنَّها لمَّا بقيت مع توفر دواعيهم على إزالتها دلَّ ذلك على أنَّها كانت في غاية الظهور .
قيل : السؤالُ كان عن القرآن ، ومعرفة نُبوَّةِ الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - . وقيل : السؤال راجعٌ إلى قوله { فَمَا اختلفوا حتى جَآءَهُمُ العلم } والأول أولى ؛ لأنَّه الأهمُّ . ولمَّا بين هذا الطريق قال : { لَقَدْ جَآءَكَ الحق مِن رَّبِّكَ } أي : ثبت عنده بالآيات والبراهين القاطعة أنَّ ما أتاك هو الحق : " فلا تكُوننَّ من المُمترينَ " أي : لا مدخل للمرية فيه { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله } أي : اثبت ، ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية ، وانتفاء التكذيب بآيات الله ؟ وروي أنَّه عليه الصلاة والسلام قال عند نزوله : " لا أشُكُّ ولا أسْألُ بلْ أشهدُ أنَّهُ الحقُّ " {[18617]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.