قوله تعالى : { ترجعونها إن كنتم صادقين } أي : تردون نفس هذا الميت إلى جسده بعد ما بلغت الحلقوم ، فأجاب عن قوله : { فلولا إذا بلغت الحلقوم } وعن قوله : { فلولا إن كنتم غير مدينين } بجواب واحد . ومثله قوله عز وجل : { فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم }( البقرة- 38 ) أجيبا بجواب واحد ، معناه : إن كان الأمر كما تقولون : أنه لا بعث ولا حساب ولا إله يجازي فهلا تردون نفس من يعز عليكم إذا بلغت الحلقوم ، وإذا لم يمكنكم ذلك فاعلموا أن الأمر إلى غيركم وهو الله عز وجل فآمنوا به .
وقوله : تَرْجِعُوَنها إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ يقول : تردّون تلك النفوس من بعد مصيرها إلى الحلاقيم إلى مستقرّها من الأجساد إن كنتم صادقين ، إن كنتم تمتنعون من الموت والحساب والمجازاة ، وجواب قوله : فَلَوْلا إذَا بَلَغَتِ الْحَلْقُومَ ، وجواب قوله : فَلَوْلا إنْ كُنْتُمْ غَيرَ مَدِينِينَ جواب واحد وهو قوله : تَرْجِعُوَنها وذلك نحو قوله : فإمّا يأْتِيَنّكُمْ مِنّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ جعل جواب الجزاءين جوابا واحدا . وبنحو الذي قلنا في قوله : تَرْجِعُوَنها قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : تَرْجِعُوَنها قال : لتلك النفس إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ .
وجواب شرط { إن } محذوف دل عليه فعل { ترجعونها } . قال ابن عطية : وقوله : { ترجعونها } سدّ مسدّ الأجوبة والبيانات التي تقتضيها التحضيضات ، و { إذا } من قوله : { فلولا إذا بلغت } و ( إن ) المتكررة وحمل بعض القول بعضاً إيجاز أو اقتضابات » اه .
وجملة { إن كنتم صادقين } بيان لجملة { إن كنتم غير مدينين } وعلى التفسير الأول لمعنى { مدينين } يكون وجه إعادة هذا الشرط مع أنه مما استفيد بقوله : { إن كنتم غير مدينين } هو الإيماء إلى فرض الشرط في قوله : { إن كنتم غير مدينين } بالنسبة لما في نفس الأمر وأن الشرط في قوله : { إن كنتم صادقين } هو فرض وتقدير لا وقوع له نفي البعث ، وعلى الوجه الثاني يرجع قوله : { إن كنتم صادقين } إلى ما أفاده التحضيض ، وموقع فاء التفريع من إرادة أن قبض الأرواح لتأخيرها إلى يوم الجزاء ، أي إن كنتم صادقين في نفي البعث والجزاء .
وضمير التأنيث في قوله : { ترجعونها } عائد إلى الروح الدال عليه التاء في قوله : { إذا بلغت الحلقوم } .
ومعنى الاستدراك في { ولكن لا تبصرون } راجع إلى قوله : { ونحن أقرب إليه منكم } لرفع توهم قائل : كيف يكون أقرب إلى المحتضر من العوّاد الحافين حوله وهم يرون شيئاً غيرهم يدفع ذلك بأنهم محجوبون عن رؤية أمر الله تعالى .
وجملة { ولكن لا تبصرون } معترضة ، والواو اعتراضية . ومفعول { تبصرون } محذوف دلّ عليه قوله : { ونحن أقرب إليه } .
ومعنى { مدينين } مُجَازَيْنَ على أعمالكم . وعلى هذا المعنى حمله جمهور المتقدمين من المفسرين ابن عباس ومجاهد وجابر بن زيد والحسن وقتادة ، وعليه جمهور المفسرين من المتأخرين على الإِجمال ، وفسره الفراء والزمخشري { مدينين } بمعنى : عبيد لله ، من قولهم : دَان السلطان الرعية ، إذا ساسهم ، أي غير مرْبوبين وهو بعيد عن السياق .
واعلم أن قوله : { إن كنتم غير مدينين } فرض وتقدير فَ { إنْ } فيه بمنزلة ( لو ) ، أي لو كنتم غير مدينين ، أي غير مجزيين على الأعمال .
وأسند فعل { إن كنتم غير مدينين } إلى المخاطبين بضمير المخاطبين ، دون أن يقول : إن كان الناس غير مدينين لأن المخاطبين هم الذين لأجل إنكارهم البعث سيق هذا الكلام . والمعنى : لو كنتم أنتم وكان الناس غير مدينين لما أخرجت الأرواح من الأجْساد إذ لا فائدة تحصل من تفريق ذينك الإِلفين لولا غرض ساممٍ ، وهو وضع كل روح فيما يليق بها من عالم الخلود جزاء على الأعمال ، ولذلك أوثر لفظ { غير مدينين } دون أن يقال : غير مبعوثين ، أو غير مُعادين ، وإن كان لا يلزم من نفي الإدانة نفي البعث فإنه يجوز أن يكون بعث بلا جزاء لكن ذلك لا يدَعى لأنه عبث .
فقوله : { إن كنتم غير مدينين } إيماء إلى أن الغرض من سوق هذا الدليل إبطال إنكارهم البعث الذي هو لحكمة الجزاء .
ومن مستتبعات هذا الكلام أن يفيد الإيماء إلى حكمة الموت بالنسبة للإنسان لأنه لتخليص الأرواح من هذه الحياة الزائلة المملوءة باطلاً إلى الحياة الأبدية الحق التي تجري فيها أحوال الأرواح على ما يناسب سلوكها في الحياة الدنيا ، كما أشار إليه قوله تعالى : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون } [ المؤمنون : 115 ] فيقتضي أنه لولا أنكم مدينون لما انتزعنا الأرواح من أجسادها بعد أن جعلناها فيها ولأبقيناها لأن الروح الإنساني ليس كالروح الحيواني ، فتكون الآية مشتملة على دليلين : أحدهما بحاقِّ التركيب ، والآخر بمستتبعاته التي أومأ إليها قوله : { إن كنتم غير مدينين } . والغرض الأول هو الذي ذيل بقوله : { إن كنتم صادقين } .
هذا تفسير الآية الذي يحيط بأوفر معانيها دلالة واقتضاء ومستتبعات . وجعل في « الكشاف » معنى الآية يصب إلى إبطال ما يعتقده الدهريون ، أي الذين يقولون { نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر } [ الجاثية : 24 ] ، لأنهم نفوا أن يكونوا عباداً لله . وجعل معنى { مدينين } مملوكين لله ، وبذلك فسره الفراء وقال ابن عطية : « إنه أصح ما يقال في معنى اللفظة هنا ، ومن عبر بمجازَى أو بمحاسب ، فذلك هنا قلق » . وقلت : في كلامه نظر ظاهر .
وجعل الزمخشري تفريعه على ما حكي من كلامهم السابق مبنياً على أن ما حكي من كلامهم في الأنْواء والتكذيب يفضي إلى مذهب التعطيل ، فاستدل عليهم بدليل يقتضي وجود الخالق وهو كله ناء عن معنى الآية لأن الدهرية لا ينتحلها جميع العرب بل هي نحلة طوائف قليلة منهم وناء عن متعارف ألفاظها وعن ترتيب استدلالها .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"تَرْجِعُوَنها إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" يقول: تردّون تلك النفوس من بعد مصيرها إلى الحلاقيم إلى مستقرّها من الأجساد إن كنتم صادقين، إن كنتم تمتنعون من الموت والحساب والمجازاة، وجواب قوله: "فَلَوْلا إذَا بَلَغَتِ الْحَلْقُومَ"، وجواب قوله: "فَلَوْلا إنْ كُنْتُمْ غَيرَ مَدِينِينَ" جواب واحد وهو قوله: "تَرْجِعُوَنها"...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ترجعونها} أي الروح إلى ما كانت عليه {إن كنتم} أي كوناً ثابتاً {صادقين} أي في أنكم غير مقهورين على الإحضار على الملك الجبار الذي أقامكم في هذه الدار للابتلاء والاختبار، وأنه ليس لغيركم أمركم، وفي تكذيبكم لما يخبر به من الأمور الدنيوية بذل شكركم، وهذا دليل على أنه لا حياة لمن بلغت روحه الحلقوم أصلاً وهذا إلزام لهم بالبعث...