وأخرهم - سبحانه - عن أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ، لتشويق السامع إلى معرفة أحوالهم ، وبيان ما أعد لهم من ثواب عظيم ، فصله بعد ذلك فى قوله - تعالى - : { أولئك المقربون فِي جَنَّاتِ النعيم . . } أى : والسابقون غيرهم إلى كل فضيلة وطاعة ، أولئك هم المقربون عند الله - تعالى - وأولئك هم الذين مقرهم جنات النعيم .
فالجملة الكريمة مستأنفة استئنافا بيانيا ، لأنها جواب يثيره فى النفوس قوله - تعالى - { والسابقون السابقون } و { أولئك } مبتدأ ، وخبره ما بعده . وما فيه من معنى البعد ، مع قرب العهد بالمشار إليه ، للإشعار يسمو منزلتهم عند الله - تعالى - ولفظ { المقربون } مأخوذ من القربة بمعنى الخطوة ، وهو أبلغ من القريب ، للدلالة صيغته على الاصطفاء والاختباء .
أى : أولئك هم المقربون من ربهم - عز وجل - قرب لا يعرف أحد مقداره .
وقال أحمد أيضا : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعَة ، حدثنا خالد بن أبي عمران ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " أتدرون من السابقون إلى ظل يوم القيامة ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، وإذا سئلوه بذلوه ، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم " {[27999]} .
وقال محمد بن كعب وأبو حَرْزَةَ يعقوب بن مجاهد : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } : هم الأنبياء ، عليهم السلام . وقال السُّدِّيّ : هم أهل عليين . وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } ، قال : يوشع بن نون ، سبق إلى موسى ، ومؤمن آل " يس " ، سبق إلى عيسى ، وعلي بن أبي طالب ، سبق إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم . رواه ابن أبي حاتم ، عن محمد بن هارون الفلاس ، عن عبد الله بن إسماعيل المدائني البزاز ، عن شُعَيْب بن الضحاك المدائني ، عن سفيان بن عُيَيْنَة ، عن ابن أبي نَجِيح به .
وقال ابن أبي حاتم : وذكر محمد {[28000]} بن أبي حماد ، حدثنا مِهْرَان ، عن خارجة ، عن قُرَّة ، عن ابن سِيرين : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } الذين صلوا للقبلتين .
ورواه ابن جرير{[28001]} من حديث خارجة ، به .
وقال الحسن وقتادة : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } أي : من كل أمة .
وقال الأوزاعي ، عن عثمان بن أبي سودة أنه قرأ هذه الآية : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ . أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } ثم قال : أولهم رواحًا إلى المسجد ، وأولهم خروجًا في سبيل الله .
وهذه الأقوال كلها صحيحة ، فإن المراد بالسابقين هم المبادرون إلى فعل الخيرات كما أمروا ، كما قال تعالى : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ } [ آل عمران : 133 ] ، وقال : { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ } [ الحديد : 22 ] ، فمن سابق إلى هذه الدنيا وسبق إلى الخير ، كان في الآخرة من السابقين إلى الكرامة ، فإن الجزاء من جنس العمل ، وكما تدين تدان ؛ ولهذا قال تعالى : { أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ . فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن زكريا القزاز{[28002]} الرازي ، حدثنا خارجة بن مُصعَب ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن عمرو قال : قالت الملائكة : يا رب ، جعلت لبني آدم الدنيا فهم يأكلون ويشربون ويتزوجون ، فاجعل لنا الآخرة . فقال : لا أفعل . فراجعوا ثلاثا ، فقال : لا أجعل من خلقت بيدي كمن قلت له : كن ، فكان . ثم قرأ عبد الله : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ . أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ . فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } .
وقد روى هذا الأثر الإمام عثمان{[28003]} بن سعيد الدارمي في كتابه : " الرد على الجهمية " ، ولفظه : فقال الله عز وجل : " لن أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي ، كمن قلت له : كن فكان " {[28004]} .
وقوله : والسّابِقُونَ السّابِقُونَ وهم الزوج الثالث وهم الذين سبقوا إلى الإيمان بالله ورسوله ، وهم المهاجرون الأوّلون . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد الله ، يعني العتكي ، عن عثمان بن عبد الله بن سُراقة ، قوله : وكُنْتُمْ أزْوَاجا ثَلاثَةً قال : اثنان في الجنة وواحد في النار ، يقول : الحور العين للسابقين ، والعُرُب الأتراب لأصحاب اليمين .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وكُنْتُمْ أزْوَاجا ثَلاثَةً قال : منازل الناس يوم القيامة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا هوذة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، في قوله : وكُنْتُمْ أزْوَاجا ثَلاثَةً فأصحَابُ المَيْمَنَةِ ما أصحَابُ المَيْمَنَةِ وأصحَابُ المَشأَمَةِ ما أصحَابُ المَشأَمَةِ والسّابِقُونَ السّابِقُونَ أُولَئِكَ المُقَرّبُونَ . . . إلى ثُلّةٌ مِنَ الأوّلِينَ وَثلّةٌ مِنَ الاَخِرِينَ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سَوّى بَيَنَ أصحَابِ اليَمِينِ مِنَ الأُمَمِ السّابِقَةِ ، وَبَيَنَ أصحَابِ اليَمِينِ مِنْ هَذِهِ الأُمّة ، وكانَ السّابِقُونَ مِنَ الأُمَمِ أكْثَرُ مِنْ سَابِقِي هَذِهِ الأُمّةِ » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَأصْحَابُ المَيْمَنَةِ ما أصحَابُ المَيْمَنَةِ : أي ماذا لهم ، وماذا أعدّ لهم وأصحَابُ المَشأَمَةِ ما أصحَابُ المَشأَمَةِ : أي ماذا لهم وماذا أعدّ لهم والسّابِقُونَ السّابِقُونَ : أي من كلّ أمة .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت ابن زيد يقول : وجدت الهوى ثلاثة أثلاث ، فالمرء يجعل هواه علمه ، فيديل هواه على علمه ، ويقهر هواه علمه ، حتى إن العلم مع الهوى قبيح ذليل ، والعلم ذليل ، الهوى غالب قاهر ، فالذي قد جعل الهوى والعلم في قلبه ، فهذا من أزواج النار ، وإذا كان ممن يريد الله به خيرا استفاق واستنبه ، فإذا هو عون للعلم على الهوى حتى يديل الله العلم على الهوى ، فإذا حسُنت حال المؤمن ، واستقامت طريقته كان الهوى ذليلاً ، وكان العلم غالبا قاهرا ، فإذا كان ممن يريد الله به خيرا ، ختم عمله بإدالة العلم ، فتوفاه حين توفاه ، وعلمه هو القاهر ، وهو العامل به ، وهواه الذليل القبيح ، ليس له في ذلك نصيب ولا فعل . والثالث : الذي قبح الله هواه بعلمه ، فلا يطمع هواه أن يغلب العلم ، ولا أن يكون معه نصف ولا نصيب ، فهذا الثالث ، وهو خيرهم كلهم ، وهو الذي قال الله عزّ وجلّ في سورة الواقعة : وكُنْتُمْ أزْوَاجا ثَلاثَةً قال : فزوجان في الجنة ، وزوج في النار ، قال : والسابق الذي يكون العلم غالبا للهوى ، والاَخر : الذي ختم الله بإدالة العلم على الهوى ، فهذان زوجان في الجنة ، والاَخر : هواه قاهر لعلمه ، فهذا زوج النار .
واختلف أهل العربية في الرافع أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ، فقال بعض نحويي البصرة : خبر قوله : فأصحَابُ المَيْمَنَةِ ما أصحَابُ المَيْمَنَة وأصحَابُ المَشأَمَةِ ما أصحَابُ المَشأَمَةِ قال : ويقول زيد : ما زيد ، يريد : زيد شديد . وقال غيره : قوله : ما أصحَابُ المَيْمَنَةِ لا تكون الجملة خبره ، ولكن الثاني عائد على الأوّل ، وهو تعجب ، فكأنه قال : أصحاب الميمنة ما هم ، والقارعة ما هي ، والحاقة ما هي ؟ فكان الثاني عائد على الأوّل ، وكان تعجبا ، والتعجب بمعنى الخبر ، ولو كان استفهاما لم يجز أن يكون خبرا للابتداء ، لأن الاستفهام لا يكون خبرا ، والخبر لا يكون استفهاما ، والتعجب يكون خبرا ، فكان خبرا للابتداء . وقوله : زيد وما زيد ، لا يكون إلا من كلامين ، لأنه لا تدخل الواو في خبر الابتداء ، كأنه قال : هذا زيد وما هو : أي ما أشدّه وما أعلمه .
واختلف أهل التأويل في المعنيين بقوله : والسّابِقُونَ السّابِقُونَ فقال بعضهم : هم الذين صلوا للقبلتين .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن خارجة ، عن قرة ، عن ابن سيرين والسّابقون السّابِقُونَ الذين صلوا للقبلتين . وقال آخرون في ذلك بما :
حدثني به عبد الكريم بن أبي عمير ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا أبو عمرو ، قال : حدثنا عثمان بن أبي سودة ، قال : السّابِقُونَ السّابِقُونَ أوّلهم رواحا إلى المساجد ، وأسرعهم خفوقا في سبيل الله .
والرفع في السابقين من وجهين : أحدهما : أن يكون الأوّل مرفوعا بالثاني ، ويكون معنى الكلام حينئذٍ والسابقون الأوّلون ، كما يقال : السابق الأوّل ، والثاني أن يكون مرفوعا بأولئك المقرّبون يقول جلّ ثناؤه : أولئك الذين يقرّبهم الله منه يوم القيامة إذا أدخلهم الجنة .
وقوله : { أولئك المقربون } ابتداء وخبر ، وهو في موضع الخبر على قول من قال : { السابقون } الثاني صفة ، و : { المقربون } معناه من الله في جنة عدن . قال جماعة من أهل العلم : وهذه الآية متضمنة أن العالم يوم القيامة على ثلاثة أصناف : مؤمنون ، هم على يمين العرش ، وهنالك هي الجنة ، وكافرون ، هم على شمال العرش ، وهنالك هي النار{[10880]} . والقول في يمين العرش وشماله نحو من الذي هو في سورة الكهف في اليمين والشمال{[10881]} . وقد قيل في { أصحاب الميمنة } واليمين : إنهم من أخذ كتابه بيمينه ، وفي { أصحاب المشأمة } والشمال : إنهم من أخذه بشماله ، فعلى هذا ليست نسبة اليمين والشمال إلى العرش .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أصحاب اليمين أطفال المؤمنين ، وقيل المراد ميمنة آدم ومشأمته المذكورتان في حديث الإسراء في الأسودة{[10882]} .
و : { السابقون } معناه : قد سبقت لهم السعادة ، وكانت أعمالهم في الدنيا سبقاً إلى أعمال البر وإلى ترك المعاصي ، فهذا عموم في جميع الناس . وخصص المفسرون في هذا أشياء ، فقال عثمان بن أبي سودة{[10883]} : هم { السابقون } إلى المساجد . وقال ابن سيرين : هم الذين صلوا القبلتين . وقال كعب : هم أهل القرآن ، وقيل غير هذا مما هو جزء من الأعمال الصالحة ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم وسئل عن السابقين ، فقال : «هم الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، وإذا سئلوا بذلوه ، وحكموا للناس بحكمهم لأنفسهم »{[10884]} .