( حم . تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم . إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين . وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون . واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها ، وتصريف الرياح ، آيات لقوم يعقلون ) . .
يذكر الحرفين : حا . ميم ويذكر بعدهما تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم . وفيهما دلالة على مصدر الكتاب ، كما أسلفنا الحديث عن الأحرف المقطعة في أوائل السور . من ناحية أن هذا الكتاب المعجز مصوغ من مثل هذه الأحرف ، وهم لا يقدرون على شيء منه ،
فهذه دلالة قائمة على أن تنزيل هذا الكتاب من الله( العزيز )القادر الذي لا يعجزه شيء . ( الحكيم )الذي يخلق كل شيء بقدر ، ويمضي كل أمر بحكمة . وهو تعقيب يناسب جو السورة وما تتعرض له من ألوان النفوس .
استئناف ابتدائي وهو جملة مركبة من مبتدأ وخبر . { الكتاب } هو المعهود وهو ما نزل من القرآن إلى تلك الساعة .
والمقصود : إثبات أن القرآن موحى به من الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فكان مقتضى الظاهر أن يجعل القرآن مسنداً إليه ويخبر عنه فيقال القرآن مُنزّل من الله العزيز الحكيم لأن كونه منزلاً من الله هو محل الجدال فيقتضي أن يكون هو الخبر ولو أذعنوا لكونه تنزيلاً لَمَا كان منهم نزاع في أن تنزيله من الله ولكن خولف مُقتضَى الظاهر لغرضين :
أحدهما : التشويق إلى تلقي الخبر لأنهم إذا سمعوا الابتداء بتنزيل الكتاب استشرفوا إلى ما سيخبر عنه ؛ فَأمَّا الكافرون فيترقبون أنه سيلقى إليهم وصف جديد لأحوال تنزيل الكتاب فيتهيّأون لخوض جديد من جدالهم وعنادهم ، والمؤمنون يترقبون لِمَا يزيدهم يقيناً بهذا التنزيل .
والغرض الثاني : أن يُدَّعى أن كون القرآن تنزيلاً أمر لا يختلف فيه فالذين خالفوا فيه كأنهم خالفوا في كونه منزّلاً من عند الله وهل يكون التنزيل إلا من عند الله فيؤول إلى تأكيد الإخبار بأنه منزل من عند الله إذ لا فرق بين مدلول كونه تنزيلاً وكونه من عند الله إلا باختلاف مفهوم المعنيين دون مَا صْدَقَيْهما على طريقة قوله : { لاَ ريب فيه } [ البقرة : 2 ] .
وإيثار وصفي { العزيز الحكيم } بالذكر دون غيرهما من الأسماء الحسنى لإشعار وصف { العزيز } بأن ما نزل منه مناسب لعزته فهو كتاب عزيز كما وصفه تعالى بقوله : { وإنه لكتاب عزيز } [ فصلت : 41 ] ، أي هو غالب لمعانديه ، وذلك لأنه أعجزهم عن معارضته ، ولإشعار وصف { الحكيم } بأن ما نزل من عنده مناسب لِحكمته ، فهو مشتمل على دلائل اليقين والحقيقة ، ففي ذلك إيماء إلى أن إعجازه ، من جانب بلاغته إذ غَلبت بلاغةَ بلغائهم ، ومن جانب معانيه إذْ أعجزت حكمته حكمة الحكماء ، وقد تقدم مثيل هذا في طالعة سورة الزمر وقريب منه في طالعة سورة غافر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{تنزيل الكتاب من الله العزيز} في ملكه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"تَنْزِيلُ الكِتابِ مِنَ اللّهِ": هذا تنزيل القرآن من عند الله.
"العَزِيزِ" في انتقامه من أعدائه، "الحَكِيمِ" في تدبيره أمر خلقه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
إنما ذكر {العزيز الحكيم} على إثر ذلك ليُعلم أنه ما أنزل الكتاب، وما أمرهم، وما نهاهم، وامتحنهم بأنواع المِحن ليتعزّز هو بذلك، أو يريد له عِزا وسلطانا أو قوة إذا ائتمروه وأطاعوه، وإذا خالفوه ولم يطيعوه في ما أمرهم، وارتكبوا ما نهاهم، يلحقه ذلّ أو نقصان في مُلكه وسلطانه؛ بل إنما فعل ذلك من الأمر والنهي وأنواع المِحن لمنفعة أنفس المُمتحَنين ليتعزّزوا إذا اتّبعوا أمره وأطاعوه، ويلحقهم ذلّ ونقصان إذا تركوا اتّباعه. بخلاف ملوك الأرض فإنه يزيد لهم اتّباع من اتّبعهم عزا وسلطانا وقوة في ملكهم، وترك أتباعهم إياهم وارتكاب ما نهوهم عنهم يوجب لهم ذلاّ ونقصانا في ملكهم؛ لأن المخلوق كان عزيزا بغيره، فإذا زال ذلك زال عزّه، وصار ذُلاًّ. فأما الله سبحانه وتعالى فهو عزيز بذاته، فلا يلحقه النقصان بمخالفة من خالفه، ولا يزداد عِزّه بائتمار من ائتمَره.
وهو الحكيم،والحكيم الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير. يذكر هذا ليُعلم أن من أنشأ من الخلائق على علم منه أنهم يكفرون به ويعصونه، لم يزل عنه الحكمة، ولا أخرجه منها لما ذكرنا أنه لم يُنشئهم لحاجة له فيهم أو لمنفعة ترجع إليه، ولكن لحاجة لهم ولمنفعة ترجع إلى أنفسهم، ومثله في الشاهد يزيل الحكمة، ويدخل في حد السّفه لما ذكرنا أنهم إنما يفعلون لحوائجهم. فكان الفعل مع العلم بأنه لا منفعة له فيه ولا مضرّة، لا يكون حكمة منهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{العزيز} معناه عام في شدة أخذه إذا انتقم، ودفاعه إذا حمي ونصر وغير ذلك. و: {الحكيم} المحكم للأشياء.
قوله {العزيز الحكيم} يجوز جعلهما صفة للكتاب، ويجوز جعلهما صفة لله تعالى، إلا أن هذا الثاني أولى، ويدل عليه وجوه:
(الأول) أنا إذا جعلناهما صفة لله تعالى كان ذلك حقيقة، وإذا جعلناهما صفة للكتاب كان ذلك مجازا والحقيقة أولى من المجاز.
(الثاني) أن زيادة القرب توجب الرجحان.
(الثالث) أنا إذا جعلنا العزيز الحكيم صفة لله كان ذلك إشارة إلى الدليل الدال على أن القرآن حق؛ لأن كونه عزيزا يدل على كونه قادرا على كل الممكنات وكونه حكيما يدل على كونه عالما بجميع المعلومات غنيا عن كل الحاجات، ويحصل لنا من مجموع كونه تعالى: عزيزا حكيما كونه قادرا على جميع الممكنات، عالما بجميع المعلومات، غنيا عن كل الحاجات، وكل ما كان كذلك امتنع منه صدور العبث والباطل، وإذا كان كذلك كان ظهور المعجز دليلا على الصدق، فثبت أنا إذا جعلنا كونه عزيزا حكيما صفتين لله تعالى يحصل منه هذه الفائدة، وأما إذا جعلناهما صفتين للكتاب لم يحصل منه هذه الفائدة، فكان الأول أولى.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ابتدأ هذه بالإعلام بأنه زاد ذلك يسراً وسهولة بإنزاله منجماً بحسب الوقائع مطابقاً لها أتم مطابقة بعد إنزاله جملة من أم الكتاب، ثم مرتباً لما أنزل منه ترتيباً يفهم علوماً ويوضح أسراراً غامضة مهمة فقال: {تنزيل الكتاب} أي إنزال الجامع لكل خير مفرقاً لزيادة التسهيل في التفهيم والإبلاغ في اليسر في التعليم وغير ذلك من الفضل العميم وزاده عظماً بقوله: {من الله} أي كائن من المحيط بصفات الكمال.
ولما كان -كما مضى- للعزة والحكمة أعظم بركة هنا قال: {العزيز الحكيم} فكان كتابه عزيزاً حكيماً لا كما تقول الكفرة من أنه شعر أو كذب أو كهانة؛ لأنه لا حكمة لذلك ولا عزة؛ بحيث يلتبس أمره بأمره هذا الكتاب المحيط بدائرة الحكمة والصواب.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يخبر تعالى خبرا يتضمن الأمر بتعظيم القرآن والاعتناء به وأنه {تَنْزِيلُ} {مِنَ اللَّهِ} المألوه المعبود لما اتصف به من صفات الكمال وانفرد به من النعم الذي له العزة الكاملة والحكمة التامة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{الكتاب} هو المعهود وهو ما نزل من القرآن إلى تلك الساعة. والمقصود: إثبات أن القرآن موحى به من الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فكان مقتضى الظاهر أن يجعل القرآن مسنداً إليه ويخبر عنه فيقال: القرآن مُنزّل من الله العزيز الحكيم؛ لأن كونه منزلاً من الله هو محل الجدال فيقتضي أن يكون هو الخبر، ولو أذعنوا لكونه تنزيلاً لَمَا كان منهم نزاع في أن تنزيله من الله، ولكن خولف مُقتضَى الظاهر لغرضين: أحدهما: التشويق إلى تلقي الخبر؛ لأنهم إذا سمعوا الابتداء بتنزيل الكتاب استشرفوا إلى ما سيخبر عنه؛ فَأمَّا الكافرون فيترقبون أنه سيلقى إليهم وصف جديد لأحوال تنزيل الكتاب فيتهيؤون لخوض جديد من جدالهم وعنادهم، والمؤمنون يترقبون لِمَا يزيدهم يقيناً بهذا التنزيل.
والغرض الثاني: أن يُدَّعى أن كون القرآن تنزيلاً أمر لا يختلف فيه؛ فالذين خالفوا فيه كأنهم خالفوا في كونه منزّلاً من عند الله، وهل يكون التنزيل إلا من عند الله فيؤول إلى تأكيد الإخبار بأنه منزل من عند الله؛ إذ لا فرق بين مدلول كونه تنزيلاً وكونه من عند الله إلا باختلاف مفهوم المعنيين دون مَا صْدَقَيْهما على طريقة قوله: {لاَ ريب فيه} [البقرة: 2].
وإيثار وصفي {العزيز الحكيم} بالذكر دون غيرهما من الأسماء الحسنى لإشعار وصف {العزيز} بأن ما نزل منه مناسب لعزته فهو كتاب عزيز كما وصفه تعالى بقوله: {وإنه لكتاب عزيز} [فصلت: 41]، أي هو غالب لمعانديه؛ وذلك لأنه أعجزهم عن معارضته، ولإشعار وصف {الحكيم} بأن ما نزل من عنده مناسب لِحكمته، فهو مشتمل على دلائل اليقين والحقيقة، ففي ذلك إيماء إلى أن إعجازه من جانب بلاغته إذ غَلبت بلاغةَ بلغائهم، ومن جانب معانيه إذْ أعجزت حكمته حكمة الحكماء..
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الطريف أنّ هذه الآية قد وردت على هذه الهيئة في بداية أربع سور من القرآن الكريم، ثلاث منها من الحواميم وهي المؤمن والجاثية والأحقاف والأُخرى من غير الحواميم، وهي سورة الزمر. وهذا التكرار والتأكيد يهدف إلى جلب انتباه الجميع إلى عمق أسرار القرآن وعظمة محتواه، لئلا ينظروا ببساطة وعدم تدبر إلى أية عبارة أو تعبير من تعابيره، ولئلا يظنوا أنّ هذه الكلمة أو تلك لا محل لها ولا فائدة من ذكرها، لكي لا يقنعوا بحدّ معين من فهمه وإدراكه، بل ينبغي أن يكونوا في سعي دؤوب للتوصل إلى أعمق ممّا أدركوه.
(العزيز) عزيز لا تصل إليه أيدي الذين يقولون بعدم فائدته، ولا ينقص مر الزمان من أهميته، ولا تبلى حقائقه ولا تفقد قيمتها، ويفضح المحرفين أو من يحاول تحريفه، ويشق طريقه إلى الأمام دائماً رغم كل ما يوضع أمامه من عراقيل.