ثم أكد - سبحانه - هذا الحكم وقرره فقال : { إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
والاشتراء فى الآية الكريمة بمعنى الاستبدال على سبيل الاستعارة التمثيلية فقد شبه - سبحانه - الكافر الذى يترك الحق الواضح الذى قامت الأدلة على صحته ويختار بدله الضلال الذى قامت الأدلة على بطلانه ، بمن يكون فى يده سلعة ثمينة جيدة فيتركها ويأخذ فى مقابلها سلعة رديئة فاسدة .
والمعنى أن الذين استبدلوا الكفر بالإيمان ، لن يضروا دين الله ولا رسوله ولا أولياءه بشىء من الضرر ، وإنما يضرون بفعلهم هذا أنفسهم ضررا بليغا ولهم فى الآخرة عذاب مؤلم شديد الإيلام ، بسبب إيثارهم الغى على الرشد ، والكفر على الإيمان ، والشر على الخير .
( إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم ) . .
ولقد كان الإيمان في متناول أيديهم . دلائله مبثوثة في صفحات الكون ، وفي أعماق الفطرة . وأماراته قائمة في " تصميم " هذا الوجود العجيب ، وفي تناسقه وتكامله الغريب ، وقائمة كذلك في " تصميم " الفطرة المباشرة ، وتجاوبها مع هذا الوجود ، وشعورها باليد الصانعة ، وبطابع الصنعة البارعة . . ثم إن الدعوة إلى الإيمان - بعد هذا كله - قائمة على لسان الرسل ، وقائمة في طبيعة الدعوة وما فيها من تلبية الفطرة ، ومن جمال التناسق ، ومن صلاحية للحياة والناس . .
أجل كان الإيمان مبذولا لهم ، فباعوه واشتروا به الكفر ، على علم وعن بينة ، ومن هنا استحقوا أن يتركهم الله يسارعون في الكفر ، ليستنفدوا رصيدهم كله ، ولا يستبقوا لهم حظا من ثواب الآخرة . ومن هنا كذلك كانوا أضعف من أن يضروا الله شيئا . فهم في ضلالة كاملة ليس معهم من الحق شيء . ولم ينزل الله بالضلالة سلطانا ؛ ولم يجعل في الباطل قوة . فهم أضعف من أن يضروا أولياء الله ودعوته ، بهذه القوة الضئيلة الهزيلة ، مهما انتفشت ، ومهما أوقعت بالمؤمنين من أذى وقتي إلى حين !
أشد إيلاما - بما لا يقاس - مما يملكون إيقاعه بالمؤمنين من الآم !
تكرير لجملة { إنهم لن يضروا الله شيئاً } قصد به ، مع التأكيد ، إفادةُ هذا الخبر استقلالاً للاهتمام به بعد أن ذكر على وجه التعليل لتسلية الرسول . وفي اختلاف الصلتين إيماء إلى أنّ مضمون كل صلة منهما هو سبب الخبر الثابت لمَوصُولها ، وتأكيد لقوله : { إنهم لن يضروا الله شيئاً } المتقدّم ، كقول لبيد :
كدُخان نارٍ سَاطِع أسْنَامُهــا
كدُخان مُشْعَلَةٍ يُشَبّ ضِرامُها
مع زيادة بيان اشتهارهم هم بمضمون الصلة .
والاشتراء مستعار للاستبدال كما تقدّم في قوله تعالى : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } في سورة [ البقرة : 16 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان}، يعني باعوا الإيمان بالكفر، {لن يضروا الله}، يعني لن ينقصوا الله من ملكه وسلطانه {شيئا} حين باعوا الإيمان بالكفر، إنما ضروا أنفسهم بذلك، {ولهم عذاب أليم}، يعني وجيع.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك جلّ ثناؤه: المنافقين الذين تقدم إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فيهم، أن لا يحزنه مسارعتهم إلى الكفر، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: إن هؤلاء الذين ابتاعوا الكفر بإيمانهم، فارتدّوا عن إيمانهم بعد دخولهم فيه، ورضوا بالكفر بالله وبرسوله، عوضا من الإيمان، لن يضرّوا الله بكفرهم وارتدادهم، عن إيمانهم شيئا، بل إنما يضرّون بذلك أنفسهم بإيجابهم بذلك لها من عقاب الله ما لا قبل لها به. وإنما حثّ الله جلّ ثناؤه بهذه الآيات من قوله: {وَما أصَابَكُمْ يَوْمَ الَتْقَى الجَمْعانِ فَبإذْنِ اللّهِ} إلى هذه الآية عباده المؤمنين على إخلاص اليقين، والانقطاع إليه في أمورهم، والرضا به ناصرا وحده دون غيره من سائر خلقه، ورغب بها في جهاد أعدائه وأعداء دينه، وشجع بها قلوبهم، وأعلمهم أن من وليه بنصره فلن يخذل ولو اجتمع عليه جميع من خالفه وحاده، وأن من خذله فلن ينصره ناصر ينفعه نصره ولو كثرت أعوانه أو نصراؤه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان} إمّا أن يكون تكريراً لذكرهم للتأكيد والتسجيل عليهم بما أضاف إليهم. وإمّا أن يكون عاماً للكفار، والأوّل خاصاً فيمن نافق من المتخلفين، أو ارتدّ عن الإسلام أو على العكس.
اعلم أنا لو حملنا الآية الأولى على المنافقين واليهود، وحملنا هذه الآية على المرتدين لا يبعد أيضا حمل الآية الأولى على المرتدين، وحمل هذه الآية على اليهود، ومعنى اشتراء الكفر بالإيمان منهم، أنهم كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم ويؤمنون به قبل مبعثه ويستنصرون به على أعدائهم، فلما بعث كفروا به وتركوا ما كانوا عليه، فكأنهم أعطوا الإيمان وأخذوا الكفر بدلا عنه كما يفعل المشتري من إعطاء شيء وأخذ غيره بدلا عنه، ولا يبعد أيضا حمل هذه الآية على المنافقين، وذلك لأنهم متى كانوا مع المؤمنين أظهروا الإيمان، فإذا خلوا إلى شياطينهم كفروا وتركوا الإيمان، فكان ذلك كأنهم اشتروا الكفر بالإيمان.
واعلم أنه تعالى قال في الآية الأولى: {الذين يسارعون في الكفر لن يضروا الله شيئا} وقال في هذه الآية: {إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا} والفائدة في هذا التكرار أمور: أحدها: أن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لا شك أنهم كانوا كافرين أولا، ثم آمنوا ثم كفروا بعد ذلك، وهذا يدل على شدة الاضطراب وضعف الرأي وقلة الثبات، ومثل هذا الإنسان لا خوف منه ولا هيبة له ولا قدرة له البتة على إلحاق الضرر بالغير.
وثانيها: أن أمر الدين أهم الأمور وأعظمها، ومثل هذا مما لا يقدم الإنسان فيه على الفعل أو على الترك إلا بعد إمعان النظر وكثرة الفكر، وهؤلاء يقدمون على الفعل أو على الترك في مثل هذا المهم العظيم بأهون الأسباب وأضعف الموجبات، وذلك يدل على قلة عقلهم وشدة حماقتهم، فأمثال هؤلاء لا يلتفت العاقل إليهم.
وثالثها: إن أكثرهم إنما ينازعونك في الدين، لا بناء على الشبهات، بل بناء على الحسد والمنازعة في منصب الدنيا، ومن كان عقله هذا القدر، وهو أنه يبيع بالقليل من الدنيا السعادة العظيمة في الآخرة كان في غاية الحماقة، ومثله لا يقدر في إلحاق الضرر بالغير، فهذا هو الفائدة في إعادة هذه الآية، والله أعلم بمراده.
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
{إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً} خبرٌ في ضِمْنِهِ وعيدٌ لهم، أي: وإنما يضرُّون أنفسهم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال الأستاذ الإمام: أعاد المعنى وعممه وأكده بهذه الآية، هو في بادي الرأي تكرار ليس فيه زيادة فائدة، ومن فقه الآيتين علم أن تلك في المسارعين في الكفر وهذه في الذين اشتروا الكفر بالإيمان، أي اختاروه ورضوا به كما يرضى المشتري أن يرى ما أخده أنفع له مما بذله، فهذا الوصف أعم من الأول. كأنه يقول إن أولئك الكفار الذين تراهم يسارعون في نصرة الكفر وتعزيزه والدفاع دونه ومقاومة المؤمنين لأجله لا شأن لهم، ولا يستحقون أن تهتم بأمرهم، فإنهم إنما يحاربون الله ويغالبونه والله غالب على أمره، فلا يقدر أحد على ضره، ثم لا ينبغي أن تحزن عليهم أيضا لأنهم محرومون من رضوان الله. فلما بين هذا كان مما يمكن أن يخطر في البال أنه حكم خاص بالذين يسارعون في الكفر فبين في هذه الآية أنه عام يشمل كل من آثر الكفر على الإيمان فاستبدله به. ففي إعادة العبارة بهذا الأسلوب فائدتان: إحداهما أن فيها قسما من الكافرين لم يذكروا في الآية الأولى، والثانية أن فيها مع تأكيد عدم إضرارهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بيانا لحال من أحوالهم يدل على سخافتهم وضعف عقولهم إذ رضوا بالكفر واختاروه وحسبوه منفعة وفائدة، فكأنه يقول: إن هؤلاء لا قيمة لهم فيخاف منهم أو يحزن عليهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم)..
ولقد كان الإيمان في متناول أيديهم. دلائله مبثوثة في صفحات الكون، وفي أعماق الفطرة. وأماراته قائمة في "تصميم "هذا الوجود العجيب، وفي تناسقه وتكامله الغريب، وقائمة كذلك في "تصميم" الفطرة المباشرة، وتجاوبها مع هذا الوجود، وشعورها باليد الصانعة، وبطابع الصنعة البارعة.. ثم إن الدعوة إلى الإيمان -بعد هذا كله- قائمة على لسان الرسل، وقائمة في طبيعة الدعوة وما فيها من تلبية الفطرة، ومن جمال التناسق، ومن صلاحية للحياة والناس..
أجل كان الإيمان مبذولا لهم، فباعوه واشتروا به الكفر، على علم وعن بينة، ومن هنا استحقوا أن يتركهم الله يسارعون في الكفر، ليستنفدوا رصيدهم كله، ولا يستبقوا لهم حظا من ثواب الآخرة. ومن هنا كذلك كانوا أضعف من أن يضروا الله شيئا. فهم في ضلالة كاملة ليس معهم من الحق شيء. ولم ينزل الله بالضلالة سلطانا؛ ولم يجعل في الباطل قوة. فهم أضعف من أن يضروا أولياء الله ودعوته، بهذه القوة الضئيلة الهزيلة، مهما انتفشت، ومهما أوقعت بالمؤمنين من أذى وقتي إلى حين!
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وتنطلق الآية الثانية لتؤكّد الفكرة في نطاق عامّ شامل يطرح القضية في مستوى القاعدة الكليّة: [إنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان] في عمليّة اختيار ذاتيّة، لم تفرضها عليهم شبهة فكريّة، بل كانت نتيجة حالة نفسية مرضيّة معقدة، فقد باعوا الإيمان بالكفر واستبدلوه به بعد وضوح الحقّ لديهم، [لن يضُرُّوا اللّه شيئاً] بل يضرُّون أنفسهم في ما يفقدونه من نعمة الإيمان الذي يفتح آفاق الإنسان على كلّ المعاني الطيبة في الحياة، ويوحي له بكلّ الأفكار الطاهرة المنفتحة التي تثير فيه مشاعر السموّ والخير والانطلاق... وماذا بعد ذلك؟ إنَّ الإضرار بأنفسهم لن يقتصر على الجانب السلبي، بل هناك الجانب الإيجابي الذي يتمثّل فيه العذاب الأليم [ولهم عذابٌ أليمٌ] بما اختاروه لأنفسهم من الكفر والعصيان.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ يقرّر القرآن هذه الحقائق في الآية الثانية بشكل أكثر تفصيلا إِذ يقول: (إِن الَّذين اشتروا الكفر بالإِيمان لن يضرّوا الله شيئاً) يعنى ليس الّذين يتسابقون في طريق الكفر ويسارعون إِليه هم وحدهم على هذا الحال، بل كل الّذين يسلكون طريق الكفر بشكل من الأشكال ويشترون الكفر بالإِيمان، كل هؤلاء لن يضرّوا الله شيئاً، وإِنّما يضرّون أنفسهم.
ويختم سبحانه الآية بقوله: (ولهم عذاب أليم) هذا التفاوت في التعبير في خاتمة هذه الآية والآية التي قبلها حيث قال هناك: (ولهم عذاب عظيم) وقال هنا (ولهم عذاب أليم) إِنّما هو لأجل إِن الذين جاء ذكرهم في الآية السابقة أسرع في المبادرة والتوجه نحو الكفر.