قوله تعالى : { ولا يحسبن الذين كفروا } . قرأ حمزة هذا والذي بعده بالتاء فيهما ، وقرأ الآخرون بالياء ، فمن قرأ بالياء " فالذين " في محل الرفع على الفاعل تقديره ولا يحسبن الكفار إملاءنا لهم خيراً ، ومن قرأ بالتاء يعني ولا تحسبن يا محمد الذين كفروا ، وإنما نصب على البدل من الذين .
قوله تعالى : { إنما نملي لهم خير لأنفسهم } . والإملاء الإمهال والتأخير ، يقال : عشت طويلاً حميداً وتمليت حيناً ، ومنه قوله تعالى ( واهجرني مليا ) . أي حيناً طويلاً ، ثم ابتدأ فقال :
قوله تعالى : { إنما نملي لهم } . نمهلهم .
قوله تعالى : { ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين } . قال مقاتل : نزلت في مشركي مكة ، وقال عطاء في قريظة والنضير .
أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله القفال ، أنا أبو منصور أحمد بن الفضل البروجردي ، أنا أبو أحمد بكر بن محمد حمدان الصيرفي ، أنا محمد بن يونس ، أنا أبو داود الطيالسي ، أنا شعبة عن علي بن زيد ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم " أي الناس خير ؟ قال : من طال عمره وحسن عمله قيل : فأي الناس شر ؟ قال : من طال عمره وساء عمله " .
{ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ }
أي : ولا يظن الذين كفروا بربهم ونابذوا دينه ، وحاربوا رسوله أن تركنا إياهم في هذه الدنيا ، وعدم استئصالنا لهم ، وإملاءنا لهم خير لأنفسهم ، ومحبة منا لهم .
كلا ، ليس الأمر كما زعموا ، وإنما ذلك لشر يريده الله بهم ، وزيادة عذاب وعقوبة إلى عذابهم ، ولهذا قال : { إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين } فالله تعالى يملي للظالم ، حتى يزداد طغيانه ، ويترادف كفرانه ، حتى إذا أخذه أخذه{[176]} أخذ عزيز مقتدر ، فليحذر الظالمون من الإمهال ، ولا يظنوا أن يفوتوا الكبير المتعال .
ثم بين - سبحانه - أن ما يتمتع به الأشرار فى الدنيا من متع إنما هو استدراج لهم ، فقال - تعالى - : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ } .
وقوله { نُمْلِي لَهُمْ } من الإملاء وهو الإمهال والتخلية بين العامل والعمل ليبلغ مداه .
يقال : أملى فلان لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء .
ويطلق الإملاء على طول المدة ورغد العيش .
والمعنى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } ، بتطويل أعمارهم ، وبإعطائهم الكثير من وسائل العيش الرغيد هو ، { خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ } كلا . بل هو سبب للمزيد من عذابهم ، لأننا { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً } بكثرة ارتكابهم للمعاصى { وَلَهْمُ } فى الآخرة { عَذَابٌ مُّهِينٌ } أى عذاب ينالهم بسببه الذل الذى ليس بعده ذل والهوان الذى يتصاغر معه كل هوان .
وقوله { وَلاَ يَحْسَبَنَّ } إلخ . . عطف على قوله - تعالى - { وَلاَ يَحْزُنكَ } ويكون للنهى عن الظن متجها للذين كفروا ليعلموا سوء عاقبتهم .
ويكون مفعولا يحسب قد سد مسدهما أن المصدرية وما بعدها و " ما " فى قوله " أنما نملى لهم " يجوز أن تكون مصدرية ، وأن تكون موصولة حذف عائدها .
وقد كتبت متصلة بأن مع أن من حقها أن تكتب منفصلة عنها اتباعا للمصحف الإمام أى لا يحسبن الكافرين أن إملاءنا لهم أو أن الذى نمليه لهم من تأخير حياتهم وانتصارهم فى الحروب فى بعض الأحيان ، هو خير لهم .
وقرأ حمزة " ولا تحسبن الذين كفروا " . فيكون الخطاب بالنهى متجها إلى النبى صلى الله عليه وسلم ويكون المفعول الأول لحسب هو { الذين كَفَرُواْ } وقوله : { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ } بدل من الذين كفروا ساداً مسد المفعول الثانى ، أو يكون هو المفعول الثانى .
والمعنى : لا تحسبن يا محمد ولا يحسبن أحد من أمتك أن إملاءنا للذين كفروا هو خير لأنفسهم ، بل هو شر لهم ، لأننا ما أعطيناهم الكثير من وسائل العيش الرغيد إلا على سبيل الاستدراج ، وسنعاقبهم على ما ارتكبوه من آثام عقابا عسيرا .
وقوله { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً } استئناف واقع موقع التعليل للنهى عن حسبان الإملاء خيراً للكافرين .
أى إنما نزيدهم من وسائل العيش الرغيد ليزدادوا آثاما بكثرة ارتكابهم للسيئات . فتكون نتيجة ذلك أن نزيدهم من العذاب المهين الذى لا يستطيعون دفعه أو التهرب منه .
و " إنما " فى قوله { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } أداة حصر مركبة من " إن " التى هى حرف توكيد ومن " ما " الزائدة الكافة .
واللام فى قوله { ليزدادوا إِثْمَاً } هى التى تسمى بلام العاقبة كما فى قوله - تعالى - { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } أى : إنما نملى لهم فيزدادون إثما ، فلما كان ازدياد الإثم ناشئا عن الإملاء كان كالعلة له ، وكانت نتيجة هذا الإملاء أن وقعوا فى العذاب المهين .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } وقوله - تعالى - { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بهذا الحديث سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ }
( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم . إنما نملي لهم ليزدادوا إثما . ولهم عذاب مهين ) . .
وفي هذه الآية يصل السياق إلى العقدة التي تحيك في بعض الصدور ، والشبهة التي تجول في بعض القلوب ، والعتاب الذي تجيش به بعض الأرواح ، وهي ترى أعداء الله وأعداء الحق ، متروكين لا يأخذهم العذاب ، ممتعين في ظاهر الأمر ، بالقوة والسلطة والمال والجاه ! مما يوقع الفتنة في قلوبهم وفي قلوب الناس من حولهم ؛ ومما يجعل ضعاف الإيمان يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ؛ يحسبون أن الله - حاشاه - يرضى عن الباطل والشر والجحود والطغيان ، فيملي له ويرخي له العنان ! أو يحسبون أن الله - سبحانه - لا يتدخل في المعركة بين الحق والباطل ، فيدع للباطل أن يحطم الحق ، ولا يتدخل لنصرته ! أو يحسبون أن هذا الباطل حق ، وإلا فلم تركه الله ينمو ويكبر ويغلب ؟ ! أو يحسبون أن من شأن الباطل أن يغلب على الحق في هذه الأرض ، وأن ليس من شأن الحق أن ينتصر ! ثم . . يدع المبطلين الظلمة الطغاة المفسدين ، يلجون في عتوهم ، ويسارعون في كفرهم ، ويلجون في طغيانهم ، ويظنون أن الأمر قد استقام لهم ، وأن ليس هنالك من قوة تقوى على الوقوف في وجههم ! ! !
وهذا كله وهم باطل ، وظن بالله غير الحق ، والأمر ليس كذلك . وها هو ذا الله سبحانه وتعالى يحذر الذين كفروا أن يظنوا هذا الظن . . إنه إذا كان الله لا يأخذهم بكفرهم الذي يسارعون فيه ، وإذا كان يعطيهم حظا في الدنيا يستمتعون به ويلهون فيه . . إذا كان الله يأخذهم بهذا الابتلاء ، فإنما هي الفتنة ؛ وإنما هو الكيد المتين ، وإنما هو الاستدراج البعيد :
( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم . . إنما نملي لهم ليزدادوا إثما )
ولو كانوا يستحقون أن يخرجهم الله من غمرة النعمة ، بالابتلاء الموقظ ، لابتلاهم . . ولكنه لا يريد بهم خيرا ، وقد اشتروا الكفر بالإيمان ، وسارعوا في الكفر واجتهدوا فيه ! فلم يعودوا يستحقون أن يوقظهم الله من هذه الغمرة - غمرة النعمة والسلطان - بالابتلاء !
ثم قال تعالى : { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } كقوله تعالى : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ . نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } [ المؤمنون : 55 ، 56 ] ، وكقوله { فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ } [ القلم : 44 ] ، وكقوله { فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [ التوبة : 55 ] .
{ ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم } خطاب للرسول عليه السلام ، أو لكل من يحسب . والذين مفعول و{ أنما نملي } لهم بدل منه ، وإنما اقتصر على مفعول واحد لأن التعويل على البدل وهو ينوب عن المفعولين كقوله تعالى : { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون } . أو المفعول الثاني على تقدير مضاف مثل : ولا تحسبن الذين كفروا أصحاب أن الإملاء خير لأنفسهم ، أو ولا تحسبن حال الذين كفروا أن الإملاء خير لأنفسهم ، وما مصدرية وكان حقها أن تفصل في الخط ولكنها وقعت متصلة في الإمام فاتبع . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم والكسائي ويعقوب بالياء على { إن الذين } فاعل وإن مع ما في حيزه مفعول وفتح سينه في جميع القرآن ابن عامر وحمزة وعاصم . والإملاء الإمهال وإطالة العمر . وقيل تخليتهم وشأنهم ، من أملى لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعي كيف شاء . { إنما نملي لهم ليزدادوا إثما } استئناف بما هو العلة للحكم قبلها ، وما كافة واللام لام الإرادة . وعند المعتزلة لام العاقبة . وقرئ { إنما } بالفتح هنا وبكسر الأولى ولا يحسبن بالياء على معنى { ولا يحسبن الذين كفروا } أن إملاءنا لهم لازدياد الإثم بل للتوبة والدخول في الإيمان ، و{ إنما نملي لهم خير } اعتراض . معناه أن إملاءنا خير لهم أن انتبهوا وتداركوا فيه ما فرط منهم . { ولهم عذاب مهين } على هذا يجوز أن يكون حالا من الواو أي ليزدادوا إثما معدا لهم عذاب مهين .
عطف على قوله : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً } [ آل عمران : 169 ] والمقصود مقابلة الإعلام بخلاف الحسبان في حالتين : إحداهما تلوح للناظر حالة ضرّ ، والأخرى تلوح حالة خير ، فأعلم الله أن كلتا الحالتين على خلاف ما يتراءى للناظرين .
ويجوز كونه معطوفا على قوله : { ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } [ آل عمران : 176 ] إذ نهاه عن أن يكون ذلك موجباً لحزنه ، لأنهم لا يضرّون الله شيئاً ، ثم ألقى إليه خبراً لقصد إبلاغه إلى المشركين وإخوانهم المنافقين : أن لا يحسبوا أن بقاءهم نفع لهم بل هو إملاء لهم يزدادون به آثاماً ، ليكون أخذُهم بعد ذلك أشدّ . وقرأه الجمهور { ولا يَحسبنّ الذين كفروا } بياء الغيبة وفاعلُ الفعل ( الذين كفروا ) ، وقرأه حمزة وحده بتاء الخطاب .
فالخطاب إما للرسول عليه السلام وهو نهي عن حسبان لم يقع ، فالنهي للتحذير منه أو عن حسبان هو خاطر خطر للرسول صلى الله عليه وسلم غير أنّه حسبان تعجّب ، لأنّ الرسول يعلم أنّ الإملاء ليس خيراً لهم ، أو المخاطب الرسول والمقصود غيره ، ممّن يظنّ ذلك من المؤمنين على طريقة التعريض مثل { لئن أشركت ليحبطنّ عملك } [ الزمر : 65 ] ، أو المراد من الخطاب كلّ مخاطب يصلح لذلك .
وعلى قراءة الياء التحتية فالنهي مقصود به بلوغه إليهم ليعلموا سوء عاقبتهم ، ويُمِرَّ عيشهم بهذا الوعيد ، لأنّ المسلمين لا يحسبون ذلك من قبل والإملاء : الإمهال في الحياة ، والمراد به هنا تأخير حياتهم ، وعدمُ استئصالهم في الحرب ، حيث فرحوا بالنصر يوم أُحُد ، وبأنّ قتلى المسلمين بوم أحُد كانوا أكثر من قتلاهم .
ويجوز أن يراد بالإملاء التخلية بينهم وبين أعمالهم في كيد المسلمين وحربهم وعدم الأخذ على أيديهم بالهزيمة والقتل كما كان يوم بدر ، يقال : أملى لفرسه إذا أرخى له الطِّوَل في المرعى ، وهو مأخوذ من الملْو بالواو وهو سيرُ البعير الشديدُ ، ثم قالوا : أمليت للبعير والفرس إذا وسَّعت له في القيد لأنّه يتمكّن بذلك من الخَبَب والركض ، فشُبِّه فعله بشدّة السير ، وقالوا : أمليت لزيد في غيّه أى تركته : على وجه الاستعارة ، وأملى الله لفلان أخّر عقابه ، قال تعالى : { وأملي لهم إن كيدي متين } [ الأعراف : 183 ] واستعير التملّي لطول المدّة تشبيهاً للمعقول بالمحسوس فقالوا : ملأَّك الله حبيبَك تمليئة ، أي أطال عمرك معه .
وقوله : { أنما نملي لهم خير لأنفسهم } ( أَنّ ) أخت ( إنّ ) المكسورة الهمزة ، و ( ما ) موصولة وليست الزائدة ، وقد كتبت في المصحف كلمة واحدة كما تكتب إنّما المركبة من ( إن ) أخت ( أنّ ) و ( ما ) الزائدةِ الكافّةِ ، التي هي حرف حصر بمعنى ( مَا ) و ( إلاّ ) ، وكان القياس أن تكتب مفصولة وهو اصطلاح حدث بعد كتابة المصاحف لم يكن مطّرداً في الرسم القديم ، على هذا اجتمعت كلمات المفسّرين من المتقدّمين والمتأخّرين .
وأنا أرى أنّه يجوز أن يكون ( أنّما ) من قوله : { أنما نملي خير لأنفسهم } هي أنّما أخت إنّما المكسورة وأنّها مركّبة من ( أنّ ) و ( ما ) الكافّة الزائدة وأنها طريق من طرق القصر عند المحقّقين ، وأنّ المعنى : ولا يحسبنّ الذين كفروا انحصار إمهالنا لهم في أنّه خير لهم لأنّهم لمّا فرحوا بالسلامة من القتل وبالبقاء بقيد الحياة قد أضمروا في أنفسهم اعتقاد أنّ بقاءهم ما هو إلاّ خير لهم لأنّهم يحسبون القتل شرّاً لهم ، إذ لا يؤمنون بجزاء الشهادة في الآخرة لكفرهم بالبعث . فهو قصر حقيقي في ظنّهم .
ولهذا يكون رسمهم كلمة ( أنَّما ) المفتوحة الهمزة في المصحف جارياً على ما يقتضيه اصطلاح الرسم . و { أنّما نملي لهم خير لأنفسهم } هو بدل اشتمال من { الذين كفروا } ، فيكون سادّاً مسدّ المفعولين ، لأنّ المبدل منه صار كالمتروك ، وسلكت طريقة الإبدال لما فيه من الإجمال ، ثمّ التفصيل ، لأنّ تعلّق الظنّ بالمفعول الأول يستدعي تشوّف السامع للجهة التي تعلَّق بها الظنّ ، وهي مدلول المفعول الثاني ، فإذا سمع ما يسدّ مسدّ المفعولين بعد ذلك تمكّن من نفسه فضْل تمكّن وزاد تقريراً .
وقوله : { إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } استئناف واقع موقع التعليل للنهي عن حسبان الإملاء خيراً ، أي ما هو بخير لأنّهم يزدادون في تلك المدّة إثماً .
و ( إنما ) هذه كلمة مركّبة من ( إِنّ ) حرف التوكيد و ( ما ) الزائدة الكافّة وهي أداة حصر أي : ما نملي لهم إلاّ ليزدادوا إثماً ، أي فيكون أخذهم به أشدّ فهو قصر قلب .
ومعناه أنّه يملي لهم ويؤخّرهم وهم على كفرهم فيزدادون إثماً في تلك المدّة ، فيشتدّ عقابهم على ذلك ، وبذلك لا يكون الإملاء لهم خيراً لهم ، بل هو شرّ لهم .
واللام في { ليزدادوا إثماً } لام العاقبة كما هي في قوله تعالى : { ليكون لهم عدواً وحزناً } [ القصص : 8 ] أي : إنما نملي لهم فيزدادون إثماً ، فلمّا كان ازدياد الإثم ناشئاً عن الإملاء ، كان كالعلّة له ، لا سيما وازدياد الإثم يعلمه الله فهو حين أملَى لهم علم أنّهم يزدادون به إثماً ، فكان الازدياد من الإثم شديد الشبه بالعلّة ، أمّا علّة الإملاء في الحقيقة ونفس الأمر فهي شيء آخر يعلمه الله ، وهو داخل في جملة حكمة خلق أسباب الضلال وأهله والشياطين والأشياء الضارّة . وهي مسألة مفروغ منها في علم الكلام ، وهي ممّا استأثر الله بعلم الحكمة في شأنه . وتعليلُ النهي على حسبان الإملاء لهم خيراً لأنفسهم حاصل ، لأنّ مداره على التلازم بين الإملاء لهم وبين ازديادهم من الإثم في مدّة الإملاء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولا يحسبن الذين كفروا} أبا سفيان وأصحابه يوم أحد، {أنما نملي لهم} حين ظفروا {خير لأنفسهم إنما نملي لهم} في الكفر، {ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين} يعني الهوان،
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك تعالى ذكره: ولا يظنن الذين كفروا بالله ورسوله، وما جاء به من عند الله، أن إملاءنا لهم خير لأنفسهم. ويعني بالإملاء: الإطالة في العمر والإنساء في الأجل، ومنه قوله جل ثناؤه: {وَاهجُرْنِي مَلِيّا}: أي حينا طويلاً، ومنه قيل: عشت طويلاً وتمليت حينا والملا نفسه: الدهر، والملوان: الليل والنهار، وتأويل قوله: {إنّمَا نُملِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْما}: إنما نؤخر آجالهم فنطيلها ليزدادوا إثما، يقول: يكتسبوا المعاصي فتزداد آثامهم وتكثر {ولَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} يقول: ولهؤلاء الذين كفروا بالله ورسوله في الآخرة عقوبة لهم مهينة مذلة.
اعلم أنه تعالى حكى عن الذين ذهبوا إلى المدينة لتثبيط أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم إنما ثبطوهم لأنهم خوفوهم بأن يقتلوا كما قتل المسلمون يوم أحد، والله تعالى بين أن أقوال هؤلاء الشياطين لا يقبلها المؤمن ولا يلتفت إليها، وإنما الواجب على المؤمن أن يعتمد على فضل الله، ثم بين في هذه الآية أن بقاء هؤلاء المتخلفين ليس خيرا من قتل أولئك الذين قتلوا بأحد، لأن هذا البقاء صار وسيلة إلى الخزي في الدنيا والعقاب الدائم في القيامة، وقتل أولئك الذين قتلوا يوم أحد صار وسيلة إلى الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة، فترغيب أولئك المثبطين في مثل هذه الحياة وتنفيرهم عن مثل ذلك القتل لا يقبله إلا جاهل. فهذا بيان وجه النظم..
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين) فبين لنا سنة حكيمة من سننه في الاجتماع البشري؛ وهي أن الإنسان يبلغ الخير بعمله الحسن؛ ويقع في الضير بتقصيره في العمل الصالح وتشميره في عمل السيئات، والعبرة بالخواتيم، فكأنه قال: إن هذا الإملاء للكافرين ليس عناية من الله بهم وإنما هو جري على سنته في الخلق، وهي أن يكون ما يصيب الإنسان من خير وشر هو ثمرة عمله. ومن مقتضى هذه السنة العادلة أن يكون الإملاء للكافر علة لغروره، وسببا لاسترساله في فجوره، فيوقعه ذلك في الإثم الذي يترتب عليه العذاب المهين.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
في هذه الآية يصل السياق إلى العقدة التي تحيك في بعض الصدور، والشبهة التي تجول في بعض القلوب، والعتاب الذي تجيش به بعض الأرواح، وهي ترى أعداء الله وأعداء الحق، متروكين لا يأخذهم العذاب، ممتعين في ظاهر الأمر، بالقوة والسلطة والمال والجاه! مما يوقع الفتنة في قلوبهم وفي قلوب الناس من حولهم؛ ومما يجعل ضعاف الإيمان يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية؛ يحسبون أن الله -حاشاه- يرضى عن الباطل والشر والجحود والطغيان، فيملي له ويرخي له العنان! أو يحسبون أن الله -سبحانه- لا يتدخل في المعركة بين الحق والباطل، فيدع للباطل أن يحطم الحق، ولا يتدخل لنصرته! أو يحسبون أن هذا الباطل حق، وإلا فلم تركه الله ينمو ويكبر ويغلب؟! أو يحسبون أن من شأن الباطل أن يغلب على الحق في هذه الأرض، وأن ليس من شأن الحق أن ينتصر! ثم.. يدع المبطلين الظلمة الطغاة المفسدين، يلجون في عتوهم، ويسارعون في كفرهم، ويلجون في طغيانهم، ويظنون أن الأمر قد استقام لهم، وأن ليس هنالك من قوة تقوى على الوقوف في وجههم!!!
وهذا كله وهم باطل، وظن بالله غير الحق، والأمر ليس كذلك. وها هو ذا الله سبحانه وتعالى يحذر الذين كفروا أن يظنوا هذا الظن.. إنه إذا كان الله لا يأخذهم بكفرهم الذي يسارعون فيه، وإذا كان يعطيهم حظا في الدنيا يستمتعون به ويلهون فيه.. إذا كان الله يأخذهم بهذا الابتلاء، فإنما هي الفتنة؛ وإنما هو الكيد المتين، وإنما هو الاستدراج البعيد:
(ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم.. إنما نملي لهم ليزدادوا إثما)
ولو كانوا يستحقون أن يخرجهم الله من غمرة النعمة، بالابتلاء الموقظ، لابتلاهم.. ولكنه لا يريد بهم خيرا، وقد اشتروا الكفر بالإيمان، وسارعوا في الكفر واجتهدوا فيه! فلم يعودوا يستحقون أن يوقظهم الله من هذه الغمرة -غمرة النعمة والسلطان- بالابتلاء!
والإهانة هي المقابل لما هم فيه من مقام ومكانة ونعماء.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على قوله: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً} [آل عمران: 169] والمقصود مقابلة الإعلام بخلاف الحسبان في حالتين: إحداهما تلوح للناظر حالة ضرّ، والأخرى تلوح حالة خير، فأعلم الله أن كلتا الحالتين على خلاف ما يتراءى للناظرين.
ويجوز كونه معطوفا على قوله: {ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر} [آل عمران: 176] إذ نهاه عن أن يكون ذلك موجباً لحزنه، لأنهم لا يضرّون الله شيئاً، ثم ألقى إليه خبراً لقصد إبلاغه إلى المشركين وإخوانهم المنافقين: أن لا يحسبوا أن بقاءهم نفع لهم بل هو إملاء لهم يزدادون به آثاماً، ليكون أخذُهم بعد ذلك أشدّ. وقرأه الجمهور {ولا يَحسبنّ الذين كفروا} بياء الغيبة وفاعلُ الفعل (الذين كفروا)، وقرأه حمزة وحده بتاء الخطاب.
فالخطاب إما للرسول عليه السلام وهو نهي عن حسبان لم يقع، فالنهي للتحذير منه أو عن حسبان هو خاطر خطر للرسول صلى الله عليه وسلم غير أنّه حسبان تعجّب، لأنّ الرسول يعلم أنّ الإملاء ليس خيراً لهم، أو المخاطب الرسول والمقصود غيره، ممّن يظنّ ذلك من المؤمنين على طريقة التعريض مثل {لئن أشركت ليحبطنّ عملك} [الزمر: 65]، أو المراد من الخطاب كلّ مخاطب يصلح لذلك.
وعلى قراءة الياء التحتية فالنهي مقصود به بلوغه إليهم ليعلموا سوء عاقبتهم، ويُمِرَّ عيشهم بهذا الوعيد، لأنّ المسلمين لا يحسبون ذلك من قبل والإملاء: الإمهال في الحياة، والمراد به هنا تأخير حياتهم، وعدمُ استئصالهم في الحرب، حيث فرحوا بالنصر يوم أُحُد، وبأنّ قتلى المسلمين بوم أحُد كانوا أكثر من قتلاهم.
ويجوز أن يراد بالإملاء التخلية بينهم وبين أعمالهم في كيد المسلمين وحربهم وعدم الأخذ على أيديهم بالهزيمة والقتل كما كان يوم بدر، يقال: أملى لفرسه إذا أرخى له الطِّوَل في المرعى، وهو مأخوذ من الملْو بالواو وهو سيرُ البعير الشديدُ، ثم قالوا: أمليت للبعير والفرس إذا وسَّعت له في القيد لأنّه يتمكّن بذلك من الخَبَب والركض، فشُبِّه فعله بشدّة السير، وقالوا: أمليت لزيد في غيّه أى تركته: على وجه الاستعارة، وأملى الله لفلان أخّر عقابه، قال تعالى: {وأملي لهم إن كيدي متين} [الأعراف: 183] واستعير التملّي لطول المدّة تشبيهاً للمعقول بالمحسوس فقالوا: ملأَّك الله حبيبَك تمليئة، أي أطال عمرك معه.
وقوله: {أنما نملي لهم خير لأنفسهم} (أَنّ) أخت (إنّ) المكسورة الهمزة، و (ما) موصولة وليست الزائدة، وقد كتبت في المصحف كلمة واحدة كما تكتب إنّما المركبة من (إن) أخت (أنّ) و (ما) الزائدةِ الكافّةِ، التي هي حرف حصر بمعنى (مَا) و (إلاّ)، وكان القياس أن تكتب مفصولة وهو اصطلاح حدث بعد كتابة المصاحف لم يكن مطّرداً في الرسم القديم، على هذا اجتمعت كلمات المفسّرين من المتقدّمين والمتأخّرين.
وأنا أرى أنّه يجوز أن يكون (أنّما) من قوله: {أنما نملي خير لأنفسهم} هي أنّما أخت إنّما المكسورة وأنّها مركّبة من (أنّ) و (ما) الكافّة الزائدة وأنها طريق من طرق القصر عند المحقّقين، وأنّ المعنى: ولا يحسبنّ الذين كفروا انحصار إمهالنا لهم في أنّه خير لهم لأنّهم لمّا فرحوا بالسلامة من القتل وبالبقاء بقيد الحياة قد أضمروا في أنفسهم اعتقاد أنّ بقاءهم ما هو إلاّ خير لهم لأنّهم يحسبون القتل شرّاً لهم، إذ لا يؤمنون بجزاء الشهادة في الآخرة لكفرهم بالبعث. فهو قصر حقيقي في ظنّهم.
ولهذا يكون رسمهم كلمة (أنَّما) المفتوحة الهمزة في المصحف جارياً على ما يقتضيه اصطلاح الرسم. و {أنّما نملي لهم خير لأنفسهم} هو بدل اشتمال من {الذين كفروا}، فيكون سادّاً مسدّ المفعولين، لأنّ المبدل منه صار كالمتروك، وسلكت طريقة الإبدال لما فيه من الإجمال، ثمّ التفصيل، لأنّ تعلّق الظنّ بالمفعول الأول يستدعي تشوّف السامع للجهة التي تعلَّق بها الظنّ، وهي مدلول المفعول الثاني، فإذا سمع ما يسدّ مسدّ المفعولين بعد ذلك تمكّن من نفسه فضْل تمكّن وزاد تقريراً.
وقوله: {إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً} استئناف واقع موقع التعليل للنهي عن حسبان الإملاء خيراً، أي ما هو بخير لأنّهم يزدادون في تلك المدّة إثماً.
و (إنما) هذه كلمة مركّبة من (إِنّ) حرف التوكيد و (ما) الزائدة الكافّة وهي أداة حصر أي: ما نملي لهم إلاّ ليزدادوا إثماً، أي فيكون أخذهم به أشدّ فهو قصر قلب.
ومعناه أنّه يملي لهم ويؤخّرهم وهم على كفرهم فيزدادون إثماً في تلك المدّة، فيشتدّ عقابهم على ذلك، وبذلك لا يكون الإملاء لهم خيراً لهم، بل هو شرّ لهم.
واللام في {ليزدادوا إثماً} لام العاقبة كما هي في قوله تعالى: {ليكون لهم عدواً وحزناً} [القصص: 8] أي: إنما نملي لهم فيزدادون إثماً، فلمّا كان ازدياد الإثم ناشئاً عن الإملاء، كان كالعلّة له، لا سيما وازدياد الإثم يعلمه الله فهو حين أملَى لهم علم أنّهم يزدادون به إثماً، فكان الازدياد من الإثم شديد الشبه بالعلّة، أمّا علّة الإملاء في الحقيقة ونفس الأمر فهي شيء آخر يعلمه الله، وهو داخل في جملة حكمة خلق أسباب الضلال وأهله والشياطين والأشياء الضارّة. وهي مسألة مفروغ منها في علم الكلام، وهي ممّا استأثر الله بعلم الحكمة في شأنه. وتعليلُ النهي على حسبان الإملاء لهم خيراً لأنفسهم حاصل، لأنّ مداره على التلازم بين الإملاء لهم وبين ازديادهم من الإثم في مدّة الإملاء.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
النص الكريم في بيان معاملة الله تعالى للذين تركوا الحق، ويتبعون الضلال، ويحادون الله ورسوله سرا وإعلانا، وقد بين سبحانه في الآية أنه لا يصح أن تكون مسارعة الكفار في الكفر وتنقلهم من حال إلى حال فيه سببا في حزنك، وإلقاء الغم في قلبك، لأنهم لا يضرون إلا أنفسهم ولن يضروك شيئا ما دام الله سبحانه معك، ولن يتخلى عنك، وفي هذه الآيات يبين معاملة الله تعالى لهؤلاء الكافرين، واختباره سبحانه للمؤمنين، وأنه سبحانه وتعالى قد قدر كل ذلك في علمه المكنون الذي لا يطلع علي أحد، وقد قال سبحانه في أوصاف الكافرين: {إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم}.
هذه الآية تبين حال الذين عاندوا الرسول، ولم يخلصوا في طلب الحق، وهؤلاء أقبلوا على الكفر راغبين فيه طالبين له، حتى إنهم ليجعلون الإيمان الذي أودعه الله تعالى النفوس في تكوينها، وجعله موضع النور في كيانها- ثمنا يقدم في نظير الكفر الذي يأخذونه، وفي هذا دلالة على أمرين:
أولهما: ان الكافرين طمس على قلوبهم فاستبدلوا بفطرة الإيمان التي فطر الله الناس عليها كفرا قامت الدلائل على بطلانه فكان هذا دليلا على تمكن الضلال، وكل ما يقع منهم بعد ذلك من شر يجب ان يكون متوقعا، فيهون امره، ويضعف في النفس أثره.
ثانيهما: أن الإيمان في ملك كل إنسان، وهو الأصل الذي يجب أن يهتدي إليه عندما تلوح ظواهره وبيناته فإن الله تعالى قد ألهم كل نفس فجورها وتقواها، والبينات الشاهدة الواضحة المؤيدة الهادية تجعل الإيمان في قبضة يد طالب الحق، فإذا فتح قلبه للكفر، فقد باع أغلى شيء في الوجود، وهو الإيمان، بأحقر شيء في الوجود وهو الكفر، والكلام بعد ذلك فيه استعارة تمثيلية، وهي تصوير الكافر الذي يترك بينات الله وآياته، وإنها لكثيرة ويختار الضلال مع قيام الأدلة على بطلانه، بمن يكون في يده أجود بضاعة، ويبيعها بأرخص الأثمان، بل بشيء لا يفيد قط، وفيه إشارة إلى ان الكافرين يعلمون ان ما هم عليه هو الباطل، ولكنه العناد والطغيان، وقد ذكر ذلك سبحانه وتعالى بقوله: {وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم...14} [النمل].
وقد بين سبحانه أن هؤلاء الذين اتجروا بإيمانهم وجعلوه سلعة تباع- مغبة فعلهم عليهم وحدهم دون سائر الناس، ولن يضروا المؤمنين إلا أذى، والعاقبة للمتقين، ولذا قال سبحانه: {لن يضروا الله شيئا} أي ليس في طولهم ولا في طاقتهم أن يضروا دين الله تعالى ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا المؤمنين بالله تعالى شيئا من الضرر الذي تكون عاقبته انتصارهم إلى النهاية، فإن الله تعالى ناصر دينه خاذل أعداء الحق، فإضافة إرادة الضرر إلى الله تعالى على حذف مضاف، أي وتقديره دين الله او رسوله او المؤمنين بالله، وفي حذف المضاف إشارة إلى ان ما يفعله المشركون ويوجهونه إلى المؤمنين إنما يوجهونه إلى الله تعالى رب العالمين، وذلك إعلاء للدين وللرسول وللمؤمنين.
وإذا كان أولئك لا يضرون الله فهم لا يضرون إلا انفسهم، وبين سبحانه الضرر الذي يلحقهم بقوله سبحانه: {ولهم عذاب أليم} أي عذاب مؤلم شديد الإيلام لهم في الدنيا وفي الآخرة، فآلامهم في الدنيا هزائم تتلوها هزائم، وخزي وسقوط لهم عن علياء طاغوتهم إلى الدرك الأسفل...
ولقد يسأل سائل: لماذا يتمتع هؤلاء بالسلطان، ولماذا ينتصرون أحيانا؟ فبين سبحانه أن ذلك إملاء لهم، فقال: {ولا يحسبن الذين كفروا انما نملي لهم خير لأنفسهم}.
قد يرد على الخاطر: إذا كان امر الله هو الغالب فلم يترك هؤلاء في هذا النعيم؟ فقال سبحانه ذلك النص الكريم.
الإملاء: الإمهال والتخلية بين العامل والعمل ليبلغ مداه، من قولهم: أملى لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء، ويطلق الإملاء على طول العمر، وهو من أملى بمعنى أعطاه ملاوة أو مهلة من الزمان. جاء في مفردات الراغب الأصفهاني:"الإملاء، ومنه قيل للمدة الطويلة ملاوة من الدهر، وملى من الدهر".
وهنا في النص الكريم قراءتان إحداهما بالياء أي: {ولا يحسبن الذين} ويكون النهي عن الظن متجها للذين كفروا، والمعنى على هذا لا يجل بخواطر أولئك الكافرين أن إملاءنا لهم بإعطائهم نعيما في الدنيا، وإرخاء العنان لهم، وتمتيعهم وعدم القضاء عليهم دفعة واحدة- فيه خير لهم، ويكون مفعولا يحسب قد سد مسدهما "أن "المصدرية و"ما "بعدها فإن ذلك كثير في القرآن وكثير من كلام العرب، كقولك عن شخص: لا يحسب أنه عالم.
وعلى القراءة الثانية، {ولا تحسبن الذين كفروا انما نملي لهم خير لأنفسهم} يكون الخطاب بالنهي متجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون المفعول الأول هو {الذين كفروا}، و {أنما نملي لهم خير لأنفسهم} بدل من الذين كفروا، وسد مسد تظن يا محمد ولا يظن أحد من أمتك الذين كفروا قد أملي لهم لخير يأتيهم، ويكون توجيه الظن إلى الذين كفروا له فائدة؛ لأن الظن قد سبق إلى المؤمنين من أشخاصهم، وما أوتوا من مال وقوة وعزة نفر، وبقاءهم على هذا أمدا طويلا.
وقد صرح سبحانه من بعد ذلك بنتيجة الإملاء فقال سبحانه: {إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين}.
والمعنى أننا لا نملي للذين كفروا إلا لنتيجة واحدة مقررة ثابتة، وهي أن يزدادوا إثما، وينالهم عذاب مهين مذل لهم في الدنيا والآخرة، فإنهم إن كانوا قد نالوا في هذا الإملاء نعيما وعزا، فإنهم بعد ذلك سينالهم العذاب الأليم المهين الذي لا يكون لهم قبل بدفعه.
و"اللام" هنا لبيان العاقبة لا للتعليل والغاية وذلك كقوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون عدوا وحزنا...8} [القصص]، وذلك بيان للنتيجة؛ لأن نتيجة الالتقاط كانت كذلك، وغن كان الباعث في الحقيقة هو ان يتخذوه لهم وليا وموضع سرور؟، وبهذا تكون الآية مبينة لغاية عملهم، وأن النتيجة شر لهم لا محالة.
وقد يقول قائل: إن من الكافرين من تكون زيادة الإملاء له سببا في زيادة خير يقوم به وإن كان كافرا، وإن من هؤلاء الكافرين من يؤمن ويحسن إيمانه، فكان حقا أن الإملاء أنتج خيرا إذ مكنهم من الإيمان.
ونقول في الإجابة عن الأول: إن زيادة الإثم، لا تمنع وجود فعل خير، وهم يزداد إثمهم باستمرارهم على الكفر ومشاقة الله ورسوله على أن ما يفعلون من خير يحبطه جحودهم وإنكارهم ومعاندتهم لله سبحانه إذ تنقصهم عند فعل الخير النية الطيبة.
وعن الثاني نقول: إن زيادة الإثم مشروطة باستمرارهم على الكفر؛ لأن الإملاء ينقطع بإيمانهم، وإن الإملاء إنما هو لأجل مشاقة الله ورسوله وإعلان الكفر ومحادة الحق، وبإيمانهم تنتهي هذه المشاقة فيزول سبب الإملاء، وإن زيادة الإثم إنما هي منوطة بوصف الكفر، فبانتهائه تزول الزيادة، بل يغفر الله سبحانه وتعالى ما سبق كما قال تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف...38} [الأنفال].
وقد وصف عذاب هؤلاء بأنه مهين ليتعزى المؤمنون عما يرون من عزة هؤلاء وسلطانهم ببيان أنهم سيكونون من بعد في أشد الذلة؛ لأن عذاب الله سبحانه سيريهم الهوان الحقيقي الدائم الذي لا رفعة معه.
عندما نسمع قول الله:"ولا يحسبن" فهو نهي، وقد نهى الله الكافرين عن ماذا؟ إن الكافر عندما يجد نفسه قد أفلت في المعركة من سيف المؤمنين وأن عمره قد طال في الكفر، فهو يظن أن الحق سبحانه وتعالى تركه لخير له؛ لأنه يفهم أن عمره هو أثمن شيء عنده، فما دام قد حوفظ له على عمره فهو الخير. نقول لمثل هذا الكافر: إن العمر زمن، والزمن وعاء الأحداث، إذن فالزمن لذاته لا يُمَجد إلا بالحدث الذي يقع فيه، فإن كان الحدث الذي يقع في الزمن خيراً؛ فالزمن خير. وإن كان الحدث الذي يقع في الزمن شراً، فالزمن شر وما دام هؤلاء كافرين، فلا بد أن كل حركاتهم في الوجود والأحداث التي يقومون بها هي من جنس الشر لا من جنس الخير، لأنهم يسيرون على غير منهج الله. وربما كانوا على منهج المضادة والمضارة لمنهج الله.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
بعد تسلية النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآيات السّابقة وتطمينه تجاه ما يقوم به أعداء الرسالة والحق من محاولات عدائية لا تحصى، توجه سبحانه إِلى الأعداء في هذه الآية بالخطاب، وأخذ يحدّثهم عن المصير المشؤوم الذي ينتظرهم، وهذه الآية ترتبط في الحقيقة بأحداث معركة «أُحد» فهي مكملة للأبحاث التي مرّت حول هذه الواقعة، لأن الحديث والخطاب تارةً كان موجهاً إِلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخرى موجهاً إِلى المؤمنين، وها هو هنا موجه إِلى الكفار والمشركين.
إِنّ الآية الحاضرة التي يقول فيها سبحانه: (ولا يحسبن الذين كفروا أنّما نملي لهم خير لأنفسهم إِنّما نملي لهم ليزدادوا إِثماً ولهم عذاب مهين) تحذّر المشركين بأن عليهم أن لا يعتبروا ما أتيح لهم من إِمكانات في العدّة والعدد، وما يكسبونه من انتصارات في بعض الأحيان، وما يمتلكونه من حرّية التصرف، دليلا على صلاحهم، أو علامة على رضا الله عنهم.
وتوضيح ذلك: إِنّ المستفاد من الآيات القرآنية هو أنّ الله سبحانه ينبّه العصاة الذين لم يتوغّلوا في الخطيئة ولم يغرقوا في الآثام غرقاً، فهو سبحانه ينبّههم بالنذر تارةً، وبما يتناسب مع أعمالهم من البلاء والجزاء تارة أخرى، فيعيدهم بذلك إلى جادة الحق والصواب. وهؤلاء هم الذين لم يفقدوا بالمرّة قابلية الهداية، فيشملهم اللطف الإِلهي، فتكون المحن والبلايا نعمة بالنسبة إِليهم، لأنها تكون بمثابة جرس إِنذار لهم تنبّههم من غفلتهم، وتنتشلهم من غفوتهم كما يقول الله سبحانه: (ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلّهم يرجعون).
ولكن الذين تمادوا في الذنوب وغرقوا فيها، وبلغ طغيانهم نهايته فإِنّ الله يخذلهم، ويكلهم إِلى نفوسهم، أيّ أنّه يملي لهم لتثقل ظهورهم بأوزارهم، ويستحقوا الحدّ الأكثر من العقوبة والعذاب المهين.
هؤلاء هم الذين نسفوا كلّ الجسور، وقطعوا كلّ علاقاتهم مع الله، ولم يتركوا لأنفسهم طريق العودة إِلى ربّهم، وهتكوا كل الحجب، وفقدوا كل قابلية للهداية الإِلهية، وكل أهلية للّطف الرّباني.
إِن الآية الحاضرة تؤكد هذا المفهوم وهذا الموضوع إِذ تقول: (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إِنّما نملي لهم ليزدادوا إِثماً ولهم عذاب مهين).
إِنّ الآية الحاضرة تجيب ضمناً على سؤال يخالج أذهان كثير من الناس وهو: لماذا يرفل بعض العصاة والمجرمين في مثل هذا النعيم، ولا يلقون جزاءهم العادل على إِجرامهم؟
فإِنّ القرآن الكريم يردّ على هذا التساؤل الشّائع قائلا: إِنّ هؤلاء فقدوا كل قابلية للتغيير والإِصلاح، وهم بالتالي من الّذين تقتضي سُنّة الخلق ومبدأ حرّية الإِنسان واختياره أن يتركوا لشأنهم، ويوكّلوا إِلى أنفسهم ليصلوا إِلى مرحلة السقوط الكامل، ويستحقوا الحدّ الأكثر من العذاب والعقوبة.
هذا مضافاً إِلى ما يستفاد من بعض الآيات القرآنية من أنّه سبحانه قد يمدّ البعض بالنعم الوافرة وهو بذلك يستدرجهم، أي أنّه يأخذهم فجأة وهم في ذروة التنعم، ويسلبهم كلّ شيء وهم في أوج اللّذة والتمتع، ليكونوا بذلك أشقى من كلّ شقي، ويواجهوا في هذه الدنيا أكبر قدر ممكن من العذاب، لأن فقدان هذا النعيم أشدّ وقعاً على النفس، وأكثر مرارة كما نقرأ في الكتاب العزيز: (فلمّا نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كلّ شيء حتى إِذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإِذا هم مبلسون).
ومثل هؤلاء في الحقيقة مثل الذي يتسلق شجرة، فإِنّه كلّما ازداد رقياً ازداد فرحاً في نفسه، حتى إِذا بلغ قمتها فاجأته عاصفة شديدة، فهوى على أثرها من ذلك المترفع الشاهق إِلى الأرض فتحطمت عظامه، فتبدل فرحه البالغ إِلى حزن شديد.